المسألة السادسة  
[1] الأمر بالشيء على التعيين  [2] هل هو نهي عن أضداده ؟ اختلفوا فيه : وتفصيل المذاهب : أما أصحابنا فالأمر عندهم هو الطلب القائم بالنفس ، وقد اختلفوا : فمنهم من قال : الأمر بالشيء بعينه نهي عن أضداده ، وإن طلب الفعل بعينه هو طلب ترك أضداده ، وهو قول  القاضي أبي بكر  في أول أقواله .  
ومنهم من قال : هو نهي عن أضداده ، بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد لا أن الأمر هو عين النهي ، وهو آخر ما اختاره القاضي في آخر أقواله  [3]    .  
 [ ص: 171 ] ومنهم من منع من ذلك مطلقا  [4] وإليه ذهب إمام الحرمين   والغزالي     .  
وأما  المعتزلة      : فالأمر عندهم نفس صيغة " افعل " وقد اتفقوا على أن عين صيغة " افعل " لا تكون نهيا ; لأن صيغة النهي " لا تفعل " وليس إحداهما عين الأخرى ، وإنما اختلفوا في أن  الأمر بالشيء هل يكون نهيا عن أضداده   من جهة المعنى .  
فذهب القدماء من مشايخ  المعتزلة   إلى منعه ، ومن  المعتزلة   من صار إليه ،  كالعارضي  [5] وأبي الحسين البصري  ، وغيرهما من المعتبرين منهم .  
ومعنى كونه نهيا عن الأضداد من جهة المعنى عندهم ، أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل ، والمنع من كل ما يمنع منه .  
ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب ، وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده ، ومقبحا لها ، لكونها مانعة من فعل الواجب ، بخلاف المندوب .  
ولهذا فإن أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها ، لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه .  
والمختار إنما هو التفصيل ، وهو إما أن نقول بجواز التكليف بما لا يطاق ، أو لا نقول به ، فإن قلنا بجوازه ، على ما هو مذهب  الشيخ أبي الحسن     ( رحمة الله عليه ) كما سبق تقريره ، فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهيا عن أضداده ، ولا مستلزما للنهي عنها ، بل جائز أن نؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة ، فضلا عن كونه لا يكون منهيا عنه  [6]    .  
 [ ص: 172 ] وإن منعنا ذلك فالمختار أن الأمر بالشيء يكون مستلزما للنهي عن أضداده ، لا أن يكون عين الأمر هو عين النهي عن الضد  [7] وسواء كان الأمر أمر إيجاب أو ندب .  
أما أنه مستلزم للنهي عن الأضداد ، فلأن فعل المأمور به لا يتصور إلا بترك أضداده .  
وما لا يتم فعل المأمور به دون تركه ، فهو واجب الترك إن كان الأمر للإيجاب ، ومندوب إلى تركه إن كان الأمر للندب ، على ما سبق تقريره .  
وهو معنى كونه منهيا عنه ، غير أن النهي عن أضداد الواجب يكون نهي تحريم ، وعن أضداد المندوب نهي كراهة وتنزيه ، وأما أنه لا يكون عين الأمر هو عين النهي . فإذا قلنا إن الأمر هو صيغة ( افعل ) فظاهر ، على ما سبق  [8] وأما على قولنا إن الأمر هو الطلب القائم بالنفس ، فلأنا إذا فرضنا الكلام في الطلب النفساني القديم ، فهو وإن اتحد على أصلنا  [9] فإنما يكون أمرا بسبب تعلقه بإيجاد الفعل ، وهو من هذه الجهة لا يكون نهيا ، بسبب تعلقه بترك الفعل ، وهما بسبب التغاير في التعلق والمتعلق متغايران .  
وإن فرضنا الكلام في الطلب القائم بالمخلوق فهو وإن تعدد ، فالأمر منه أيضا إنما هو الطلب المتعلق بتركه وهما غيران .  
فإن قيل : لو كان الأمر بالفعل مستلزما للنهي عن أضداده لكان الأمر بالعبادة مستلزما للنهي عن جميع المباحات المضادة لها ، ويلزم من ذلك أن تكون حراما إن كان النهي نهي تحريم أو مكروهة إن كان النهي نهي تنزيه .  
وخرج المباح عن كونه مباحا ، كما ذهب إليه  الكعبي  [10] من  المعتزلة   ،      [ ص: 173 ] بل ويلزم منه أن يكون ما عدا العبادة المأمور بها من العبادات المضادة لها منهيا عنها ومحرمة أو مكروهة وهو محال .  
كيف وإن الآمر بالفعل قد يكون غافلا عن أضداده ، والغافل عن الشيء لا يكون ناهيا عنه ; لأن النهي عن الشيء يستدعي العلم به ، والعلم بالشيء مع الذهول عنه محال .  
سلمنا أنه مستلزم للنهي عن أضداده ، لكن يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر ، بل يجب أن يكون هو هو بعينه ، كما قاله  القاضي أبو بكر  في أحد قوليه .  
ومأخذه أنه إذا وقع الاتفاق على أنه يلزم من الأمر بالفعل النهي عن أضداده ، فذلك النهي إن كان هو غير الأمر ، فإما أن يكون ضدا له أو مثلا  [11] أو خلافا . لا جائز أن يقال بالمضادة ، وإلا لما اجتمعا ، وقد اجتمعا .  
ولا جائز أن يكون مثلا لأن المتماثلات أضداد على ما عرف في الكلاميات .  
ولا جائز أن يكون خلافا ، وإلا جاز وجود أحدهما دون الآخر ، كما في العلم والإرادة ونحوهما ، ولجاز أن يوجد أحدهما مع ضد الآخر ، كما يوجد العلم بالشيء مع الكراهة المضادة لإرادته ، ويلزم من ذلك أنه إذا أمر بالحركة المضادة للسكون إذا كان النهي عن السكون مخالفا للأمر بالحركة أن يجتمع الأمر بالحركة والأمر بالسكون المضاد المنهي عنه ، وفيه الأمر بالضدين معا ، وهو ممتنع على ما وقع به الفرض ، وإذا بطلت المغايرة تعين الاتحاد .  
وعلى هذا فالحركة عين ترك      [ ص: 174 ] السكون ، وشغل الجوهر بحيز هو عين تفريغه لغيره  [12] وعين القرب من المشرق بالفعل الواحد هو عين البعد من المغرب ، فطلب أحدهما بعينه طلب الآخر لاتحاد المطلوب .  
والجواب : عن السؤال الأول أنا لا نمنع من كون المباحات بل الواجبات المضادة المأمور بها منهيا عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به ، لا في ذاتها كما نقول في فعل  الصلاة في الدار المغصوبة   ، فإنه في ذاته غير منهي عنه ، وإن كان منهيا عنه من جهة ما يتعلق به من شغل ملك الغير ، كما سبق ذكره .  
ولا التفات إلى ما يهول به من خروج المباحات عن كونها مباحة ، فإن ذلك إنما يلزم أن لو قيل بكونها منهيا عنها في ذواتها .  
وأما إذا قيل بكونها منهيا مانعة من فعل المأمور به فلا .  
قولهم : إنه قد يأمر بالفعل من هو غافل عن أضداده ، قلنا : لا نسلم أن الآمر بالشيء عند كونه آمرا به يتصور أن يكون غافلا عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من جهة الجملة ، وإن كان غافلا عن تفصيله .  
ونحن إنما نريد بقولنا إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الأضداد من جهة الجملة لا من جهة التفصيل ، قولهم : إنه يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر ، قلنا : دليله ما سبق  [13]    .  
وما ذكره  القاضي أبو بكر  من الدليل ، فالمختار منه إنما هو قسم التخالف ، ولا يلزم من ذلك جواز انفكاك أحدهما عن الآخر لجواز أن يكونا من قبيل المختلفات المتلازمة كما في المتضايفات  [14] وكل متلازمين من الطرفين وبه      [ ص: 175 ] يمتنع  [15] الجمع بين وجود أحدهما ، وضد الآخر ولا يلزم من جواز ذلك في بعض المختلفات جوازه في الباقي ، وإذا بطل ما ذكره من دليل الاتحاد بطل ما هو مبني عليه .  
				
						
						
