المسألة الثانية عشرة
إما أن لا يكون الثاني معطوفا على الأول أو يكون معطوفا الأمران المتعاقبان [1] ، فإن كان الأول فإما أن يختلف المأمور به أو يتماثل ، فإن اختلف فلا خلاف في اقتضاء المأمورين على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب والوقف ، وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة مع الصوم أم لا يمكن الجمع كالصلاة في مكانين أو الصلاة مع أداء الزكاة ، وإن تماثل فإما أن يكون المأمور به قابلا للتكرار أو لا يكون قابلا له ، فإن لم يكن قابلا له كقوله : " صم يوم الجمعة ، صم يوم الجمعة " فإنه للتأكيد المحض ، وإن كان قابلا للتكرار فإن كانت العادة مما تمنع من تكرره كقول السيد لعبده : " اسقني ماء اسقني ماء " أو كان الثاني منهما [ ص: 185 ] معرفا كقوله : " أعط زيدا درهما أعط زيدا الدرهم " فلا خلاف أيضا في كون الثاني مؤكدا للأول .
وإنما الخلاف فيما لم تكن العادة مانعة من التكرار والثاني غير معرف كقوله : " صل ركعتين " " صل ركعتين " .
فقال : إن الثاني يفيد غير ما أفاده الأول ، ويلزم الإتيان بأربع ركعات مصيرا منه إلى أن الأمر الثاني لو انفرد أفاد اقتضاء الركعتين ، فكذلك إذا تقدمه أمر آخر لأن الاقتضاء لا يختلف . القاضي عبد الجبار
وخالفه أبو الحسين البصري بالذهاب إلى الوقف والتردد بين حمل الأمر الثاني على الوجوب أو التوكيد للأول ، والأظهر أنه إذا لم تكن العادة مانعة من التكرار ؛ ولا الثاني معرف أن مقتضى الثاني غير مقتضى الأول .
وسواء قلنا إن مقتضى الأمر الوجوب أم الندب أم هو موقوف بين الوجوب والندب كما سبق ، لأنه لو كان مقتضيا عين ما اقتضاه الأول كانت فائدته التأكيد ، ولو كان مقتضيا غير ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأسيس ، والتأسيس أصل ، والتأكيد فرع ، وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى .
فإن قيل إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة النفي الأصل ، ودليل براءة الذمة من القدر الزائد ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، فهو معارض بما يلزم من التأكيد من مخالفة ظاهر الأمر ، فإنه إما أن يكون ظاهرا في الوجوب أو الندب ، أو هو متردد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف المذاهب ، وحمله على التأكيد خلاف ما هو الظاهر من الأمر .
وإذا تعارض الترجيحان سلم لنا ما ذكرناه أولا .
كيف وإنه يحتمل أن يكون للوجوب في نفس الأمر ، وفي تركه محذور فوات المقصود من الواجب وتحصيل مقصود التأكيد ، ولا يخفى أن تفويت مقصود التأكيد وتحصيل مقصود الواجب أولى .
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول ، فإن كان المأمور به مختلفا فلا نزاع أيضا في اقتضائهما للمأمورين أمكن الجمع بينهما أو لم يمكن .
وإن تماثلا فالمأمور به إن لم يقبل التكرار فالأمر الثاني للتأكيد من غير خلاف ، كقوله : " صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة " ، وإن كان قابلا للتكرار فإن لم تكن العادة مانعة [ ص: 186 ] من التكرار ولا الثاني معرف فالحكم على ما تقدم فيما إذا لم يكن حرف عطف ، ويزيد ترجيح آخر وهو موافقة الظاهر من حروف العطف ، وذلك كقوله : " صل ركعتين وصل ركعتين " .
وأما إن كانت العادة تمنع من التكرار أو كان الثاني معرفا كقوله : " اسقني ماء واسقني ماء " وكقوله : " صل ركعتين وصل ركعتين " فقد تعارض الظاهر من حروف العطف مع اللام المعرف ، أو مع منع العادة من التكرار ، ويبقى الأمر على ما ذكرنا فيما إذا لم يكن حرف عطف ، ولا ثم تعريف ولا عادة مانعة من التكرار . وقد عرف ما فيه .
وأما إن اجتمع التعريف والعادة المانعة من التكرار في معارضة حرف العطف كقوله : " اسقني ماء واسقني الماء " فالظاهر الوقف لأن حرف العطف مع ما ذكرناه من الترجيح السابق الموجب لحمل الأمر الثاني على التأسيس واقع في مقابلة العادة المانعة من التكرار ولام التعريف ، ولا يبعد ترجيح أحد الأمرين بما يقترن به من ترجيحات أخر .