الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 208 ] وأما شبه أرباب الاشتراك [1] : فأولها : أن هذه الألفاظ والصيغ قد تطلق للعموم تارة وللخصوص تارة ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وحقيقة الخصوص غير حقيقة العموم ، فكان اللفظ المتحد الدال عليهما حقيقة مشتركا كلفظ العين والقرء ونحوه .

          وثانيها : أنه يحسن عند إطلاق هذه الصيغ الاستفهام من مطلقها أنك أردت البعض أو الكل ، وحسن الاستفهام عن كل واحد منهما دليل الاشتراك [2] ، فإنه لو كان حقيقة في أحد الأمرين دون الآخر لما حسن الاستفهام عن جهة الحقيقة .

          وأما شبه من قال بالتعميم في الأوامر والنواهي دون الأخبار فهو أن الإجماع منعقد على التكاليف بأوامر عامة لجميع المكلفين وبنواه عامة لهم ، فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم لما كان التكليف عاما ، أو كان تكليفا بما لا يطاق وهو محال .

          وهذا بخلاف الأخبار فإنه ليس بتكليف ، ولأن الخبر يجوز وروده بالمجهول ، ولا بيان له أصلا كقوله تعالى : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن ) ، ( وقرونا بين ذلك كثير ) بخلاف الأمر فإنه وإن ورد بالمجمل كقوله : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وقوله ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فإنه لا يخلو عن بيان متقدم أو متأخر أو مقارن .

          والجواب من جهة الإجمال عن جملة هذه الشبه ما أسلفناه في مسألة أن الأمر للوجوب أو الندب ، فعليك بنقله إلى هاهنا .

          وأما من جهة التفصيل : أما ما ذكره أرباب العموم من الآيات ، أما قصة نوح فلا حجة فيها وذلك لأن إضافة الأهل قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص كما في قولهم : جمع السلطان أهل البلد ، وإن كان لم يجمع النساء والصبيان والمرضى [3] .

          وعند ذلك فليس ( القول ) [ ص: 209 ] بحمل ذلك على الخصوص بقرينة أولى من القول بحمله على العموم بقرينة .

          ونحن لا ننكر صحة الحمل على العموم بالقرينة ، وإنما الخلاف في كونه حقيقة أم لا .

          وأما قصة ابن الزبعرى فلا حجة فيها أيضا ، لأن سؤاله وقع فاسدا حيث ظن أن ( ما ) عامة فيمن يعقل وليس كذلك .

          ولهذا قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - منكرا عليه : " ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ( ما ) لما لا يعقل [4] وهي وإن أطلقت على من يعقل كما في قوله تعالى : ( والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها ) فليس حقيقة ، بل مجازا .

          ويجب القول بذلك جمعا بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أما علمت أن ( ما ) لما لا يعقل " ولما فيه من موافقة المنقول عن أهل اللغة في ذلك .

          وأما قصة إبراهيم فجوابها بما سبق في قصة نوح [5] .

          وأما الاحتجاج بقصة عمر مع أبي بكر فلا حجة فيها أيضا ، لأنه إنما فهم العصمة من العلة الموجبة لها في الأموال والدماء ، وهي قول لا إله إلا الله فإنها مناسبة لذلك ، والحكم مرتب عليها في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان ذلك إيماء إليها بالتعليل .

          أما أن يكون ذلك مأخوذا من عموم دمائهم وأموالهم فلا .

          ومعارضة أبي بكر إنما كانت لما فهمه عمر من التعليل المقتضي للتعميم لا لغيره [6] .

          [ ص: 210 ] وأما قصة فاطمة مع أبي بكر فالكلام في اعتقاد العموم في قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ما سبق في قصة نوح [7] ، وهو الجواب أيضا عن احتجاج عثمان على جواز الجمع بين الأختين ، ثم قد أمكن أن يضاف ذلك إلى ما فهم من العلة الموجبة لرفع الحرج وهي الزوجية لا إلى عموم اللفظ .

          وكذلك احتجاج علي بقوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) لم يكن لعموم اللفظ ، بل بما أومى إليه اللفظ من العلة المانعة من الجمع وهي الأخوة فإنها مناسبة لذلك ، دفعا للإضرار الواقع بين الأختين من المزاحمة على الزوج الواحد ، وإنما يصح الاحتجاج باللفظ بمجرده أن لو كان للعموم [8] وهو محل النزاع .

          وإن صح الاحتجاج في هذه الصور بنفس اللفظ فلا يمتنع أن يكون ذلك بما اقترن به من العلة الرافعة للحرج في احتجاج عثمان ، والعلة المانعة من الجمع في احتجاج علي - رضي الله عنه - .

          وأما تكذيب عثمان للشاعر في قوله : (

          وكل نعيم لا محالة زائل

          ) فإنما كان لما فهمه من حال الشاعر الدالة على قصد تعظيم الرب ببقائه ، وبطلان كل ما سواه .

          أما أن يكون ذلك مستفادا من مجرد قوله ( كل ) فلا [9] .

          [ ص: 211 ] وأما استدلال أبي بكر بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الأئمة من قريش " إنما فهم منه التعميم لما ظهر له من قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعظيم قريش وميزتهم على غيرهم من القبائل ، فلو لم يكن ذلك يدل على الخصوص فيهم والاستغراق لما حصلت هذه الفائدة .

          وأما إجماع الصحابة على إجراء ما ذكروه من الآيات والأخبار على التعميم في كل سارق وزان وغير ذلك ، فإنما كان ذلك بناء على ما اقترن بها من العلل المومى إليها الموجبة للتعميم ، وهي السرقة والزنى وقتل الظالم إلى غير ذلك ، أما أن يكون اعتقاد تعميم تلك الأحكام مستندا إلى عموم تلك الألفاظ فلا .

          وأما ما ذكر من الأولى المعنوية فالجواب عنها أنا وإن سلمنا أن العموم ظاهر ، وأن الحاجة داعية إلى وضع لفظ يدل عليه ، ولكن لا نسلم إحالة الإخلال به على الواضعين .

          ولهذا قد أخلوا بالألفاظ الدالة على كثير من المعاني الظاهرة التي تدعو الحاجة إلى تعريفها بوضع اللفظ عليها ، وذلك كالفعل الحالي ورائحة المسك والعود وغير ذلك من أنواع الروائح والطعوم الخاصة بمحالها .

          فإن قيل : لا نسلم أنهم أخلوا بشيء من ذلك فإنهم يقولون : رائحة المسك ورائحة العود وطعم العسل وطعم السكر إلى غير ذلك .

          والإضافة من جملة الأوضاع المعرفة ، ولهذا فإن الباري تعالى قد عرف نفسه بالإضافة في قوله : ( ذو العرش ) و ( ذي الطول ) إلى غير ذلك .

          قلنا : وعلى هذا لا نسلم أن العرب أخلت بما يعرف العموم ، فإن الأسماء المجازية والمشتركة أيضا من الأسماء المعرفة كما سيأتي بيانه .

          وما وقع فيه الخلاف من ألفاظ العموم خارجة في نفس الأمر عن كونها حقيقة في العموم دون غيره ، أو مجازا فيه وحقيقة [10] فيه وفي غيره فتكون مشتركة .

          وعلى كل تقدير ، فما خلا العموم في وضعهم عن معرف ، ولا خلاف في ذلك ، وإنما الخلاف في جهة دلالته عليه هل هي حقيقة أو مجاز ؟ وخفاء جهة الدلالة والوقوف في تعيينها لا يبطل أصل الوضع والتعريف .

          [ ص: 212 ] وأما الشبهة الثانية : وقولهم إن ( من ) إذا كانت استفهامية لا تخلو عن الأقسام المذكورة في نفس الأمر مسلم .

          ولكن لم قالوا بوجوب تعيين بعضها مع عدم الدليل القاطع على ذلك ؟

          قولهم : لو كانت للخصوص لما حسن الجواب بكل العقلاء .

          قلنا : ولو كانت للعموم لما حسن الجواب بالبعض الخاص لما قرروه ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر كيف وإن الجواب بالكل بتقدير أن يكون للخصوص يكون جوابا عن المسئول عنه وزيادة ؟ والجواب بالخصوص بتقدير أن يكون للعموم لا يكون جوابا عن المسئول عنه .

          ولذلك كان الجواب بالكل مستحسنا .

          ثم ما المانع أن تكون مشتركة ؟

          التالي السابق


          الخدمات العلمية