أما قوله تعالى : ( ويشترون به ثمنا قليلا    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : الكناية في " به " يجوز أن تعود إلى الكتمان والفعل يدل على المصدر ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى ما أنزل الله ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى المكتوم . 
المسألة الثانية : معنى قوله : ( ويشترون به ثمنا قليلا    )  كقوله : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا    ) [ البقرة : 41 ] وقد مر ذلك . وبالجملة فكان غرضهم من ذلك الكتمان : أخذ الأموال بسبب ذلك ، فهذا هو المراد من اشترائهم بذلك ثمنا قليلا . 
المسألة الثالثة : إنما سماه قليلا إما لأنه في نفسه قليل ، وإما ؛ لأنه بالإضافة إلى ما فيه من الضرر العظيم قليل . 
 [ ص: 24 ] المسألة الرابعة : من الناس من قال : كان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال من عوامهم وأتباعهم ، وقال آخرون : بل كان غرضهم من ذلك أخذهم الأموال من كبرائهم وأغنيائهم الذين كانوا ناصرين لذلك المذهب ، وليس في الظاهر أكثر من اشترائهم بذلك الكتمان الثمن القليل ، وليس فيه بيان من طمعوا فيه وأخذوا منه ، فالكلام مجمل وإنما يتوجه الطمع في ذلك إلى من يجتمع إليه الجهل وقلة المعرفة المتمكن من المال والشح على المألوف في الدين فينزل عليه ما يلتمس منه ، فهذا هو معلوم بالعادة . 
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الحكاية عنهم ذكر الوعيد على ذلك من وجوه : 
أولها : قوله تعالى : ( أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار    ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : قال بعضهم : ذكر البطن ههنا زيادة بيان ؛ لأنه يقال : أكل فلان المال إذا بدره وأفسده وقال آخرون : بل فيه فائدة فقوله : ( في بطونهم    ) أي ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه . 
المسألة الثانية : قيل : إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيبا في الحال فعاقبته النار ، فوصف بذلك كقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا    ) [ النساء : 10 ] عن الحسن  والربيع  وجماعة من أهل العلم ، وذلك لأنه لما أكل ما يوجب النار فكأنه أكل النار ، كما روي في حديث آخر " الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم   " وقوله : ( إني أراني أعصر خمرا    ) [ يوسف : 36 ] أي عنبا فسماه باسم ما يئول إليه ، وقيل : إنهم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم    . 
وثالثها : قوله تعالى : ( ولا يكلمهم الله    ) فظاهره : أنه لا يكلمهم أصلا ، لكنه لما أورده مورد الوعيد فهم منه ما يجري مجرى العقوبة لهم ، وذكروا فيه ثلاثة أوجه : 
الأول : أنه قد دلت الدلائل على أنه سبحانه وتعالى يكلمهم ، وذلك قوله : ( فوربك لنسألنهم أجمعين  عما كانوا يعملون    ) [ الحجر : 92 : 93 ] وقوله : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين    ) [ الأعراف : 6 ] فعرفنا أنه يسأل كل واحد من المكلفين ، والسؤال لا يكون إلا بكلام ، فقالوا : وجب أن يكون المراد من الآية أنه تعالى لا يكلمهم بتحية وسلام وإنما يكلمهم بما يعظم عنده من الغم والحسرة من المناقشة والمساءلة ، وبقوله : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون    ) [ المؤمنون : 108 ] . 
الثاني : أنه تعالى لا يكلمهم ، وأما قوله تعالى : ( فوربك لنسألنهم أجمعين    ) [ الحجر : 92 ] فالسؤال إنما يكون من الملائكة بأمره تعالى ، وإنما كان عدم تكليمهم يوم القيامة مذكورا في معرض التهديد ؛ لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله تعالى فيه كل الخلائق بلا واسطة  فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه ، وضده في أعدائه ، ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار ، فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد . 
الثالث : أن قوله : ( ولا يكلمهم    ) استعارة عن الغضب ؛ لأن عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه ، كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث . 
وثالثها : قوله : ( ولا يزكيهم    ) وفيه وجوه : 
الأول : لا ينسبهم إلى التزكية ولا يثني عليهم . 
الثاني : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء . 
الثالث : لا ينزلهم منازل الأزكياء . 
ورابعها : قوله : ( ولهم عذاب أليم    ) واعلم أن الفعيل قد يكون بمعنى الفاعل  كالسميع بمعنى السامع والعليم بمعنى العالم ، وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول ، وقد يكون بمعنى المفعل كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم ، واعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل : 
 [ ص: 25 ] المسألة الأولى : أن علماء الأصول قالوا : العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة ، فقوله : ( ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم    ) إشارة إلى الإهانة والاستخفاف ، وقوله : ( ولهم عذاب أليم    ) إشارة إلى المضرة ، وقدم الإهانة على المضرة تنبيها على أن الإهانة أشق وأصعب . 
المسألة الثانية : دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين  يجب إظهاره . 
المسألة الثالثة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب  ، فالآية وإن نزلت في اليهود  لكنها عامة في حق كل من كتم شيئا من باب الدين يجب إظهاره ، فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					