الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل السادس

                                                                                                                                                                                                                                            في المضطر وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الشافعي رضي الله عنه : قوله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) معناه أن من كان مضطرا ولا يكون موصوفا بصفة البغي ، ولا بصفة العدوان البتة فأكل ، فلا إثم عليه ، وقال أبو حنيفة : معناه فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد في الأكل فلا إثم عليه ، فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل .

                                                                                                                                                                                                                                            ويتفرع على هذا الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا ؟ فقال الشافعي رضي الله عنه : لا يترخص ؛ لأنه موصوف بالعدوان فلا يندرج تحت الآية ، وقال أبو حنيفة : بل يترخص ؛ لأنه مضطر غير باغ ولا عاد في الأكل فيندرج تحت الآية . واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وبالمعقول .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الآية فهي أنه سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء على الكل بقوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) [ المائدة : 3 ] ثم أباحها للمضطر الذي يكون موصوفا بأنه غير باغ ولا عاد ، والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة ؛ لأن قولنا : فلان ليس بمتعد نقيض لقولنا : فلان متعد ، ويكفي في صدقه كونه متعديا في أمر ما من الأمور سواء كان في السفر ، أو في الأكل ، أو في غيرهما ، وإذا كان اسم المتعدي يصدق بكونه متعديا في أمر ما أي أمر كان ، وجب أن يكون قولنا : فلان غير معتد لا يصدق إلا إذا لم يكن متعديا في شيء من الأشياء البتة ، فإذن قولنا : غير باغ ولا عاد لا يصدق إلا إذا انتفى عنه صفة التعدي من جميع الوجوه . والعاصي بسفره متعد بسفره ، فلا يصدق عليه كونه غير عاد ، وإذا لم يصدق عليه ذلك وجب بقاؤه تحت الآية وهو قوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ) أقصى ما في الباب أن يقال : هذا يشكل بالعاصي في سفره ، فإنه يترخص مع أنه موصوف بالعدوان ، لكنا نقول : إنه عام دخله التخصيص في هذه الصورة ، والفرق بين الصورتين أن الرخصة إعانة على السفر ، فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية ، أما إذا لم يكن السفر في نفسه معصية لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية ، فظهر الفرق ، واعلم أن القاضي وأبا بكر الرازي نقلا عن الشافعي أنه قال في تفسير قوله : ( غير باغ ولا عاد ) أي باغ على إمام المسلمين ، ولا عاد بأن لا يكون سفره في معصية ، ثم قالا : تفسير الآية غير باغ ولا عاد في الأكل أولى مما ذكره الشافعي رضي الله عنه ، وذلك لأن قوله : ( غير باغ ولا عاد ) شرط ، والشرط بمنزلة الاستثناء في أنه لا يستقل بنفسه فلا بد من تعلقه بمذكور ، وقد علمنا أنه لا مذكور إلا الأكل ؛ لأنا بينا أن معنى الآية : فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون متعلقا بالأكل الذي هو في حكم المذكور دون السفر الذي هو البتة غير مذكور .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الكلام ضعيف ، وذلك لأنا بينا أن قوله : ( غير باغ ولا عاد ) لا يصدق إلا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور ، فيدخل فيه نفي العدوان بالسفر ضمنا . ولا نقول : اللفظ يدل على التعيين ، وأما تخصيصه بالأكل فهو تخصيص من غير ضرورة ، فكان على خلاف الأصل ، ثم الذي يدل على أنه لا [ ص: 21 ] يجوز صرفه إلى الأكل وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن قوله : ( غير باغ ولا عاد ) حال من الاضطرار ، فلا بد وأن يكون وصف الاضطرار باقيا مع بقاء كونه غير باغ ولا عاد ، فلو كان المراد بكونه غير باغ ولا عاد كونه كذلك في الأكل لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه ؛ لأن حال الأكل لا يبقي وصف الاضطرار .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وما كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي عنه ، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية ، وكذا العدوان في السفر فرد آخر من أفرادها ، فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات ، فكان تخصيصه بالأكل غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه لا يخصصه بنفي العدوان في السفر بل يحمله على ظاهره ، وهو نفي العدوان من جميع الوجوه ، ويستلزم نفي العدوان في السفر ، وحينئذ يتحقق مقصوده .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن الاحتمال الذي ذكرناه متأيد بآية أخرى وهي قوله تعالى : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم ) [ المائدة : 3 ] وهو الذي قلناه من أن الآية تقتضي أن لا يكون موصوفا بالبغي والعدوان في أمر من الأمور . واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى في آية أخرى : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) [ الأنعام : 119 ] وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) [ النساء : 29 ] وقال : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [ البقرة : 195 ] والامتناع من الأكل سعي في قتل النفس وإلقاء النفس في التهلكة ، فوجب أن يحرم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : روي أنه عليه السلام رخص للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن العاصي بسفره إذا كان نائما فأشرف على غرق أو حرق يجب على الحاضر الذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه من الغرق أو الحرق ، فلأن يجب عليه في هذه الصورة أن يسعى في إنقاذ المهجة أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن يدفع أسباب الهلاك ، كالفيل ، والجمل الصئول ، والحية ، والعقرب ، بل يجب عليه ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن العاصي بسفره إذا اضطر فلو أباح له رجل شيئا من ماله فإنه يحل له ذلك بل يجب عليه ، فكذا ههنا ، والجامع دفع الضرر عن النفس .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أن المؤنة في دفع ضرر الناس أعظم في الوجوب من كل ما يدفع المرء من المضار عن نفسه ، فكذلك يدفع ضرر الهلاك عن نفسه بهذا الأكل وإن كان عاصيا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : أن الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب الشافعي عن التمسك بالعمومات بأن دليلنا النافي للترخص أخص من دلائلهم المرخصة ، والخاص مقدم على العام ، وعن الوجوه القياسية بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة ، وإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه ، ثم عارض هذه الوجوه بوجه قوي وهو أن الرخصة إعانة على السفر ، فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية وذلك محال ، لأن المعصية ممنوع منها ، والإعانة سعي في تحصيلها ، والجمع بينهما متناقض والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية