الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله تعالى : ( وأتموا ) أمر بالإتمام ، وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه ؟ ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق ، والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه : إن هذا الأمر مشروط ، والمعنى أن من شرع فيه فليتمه ، قالوا : ومن [ ص: 119 ] الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجبا إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجبا ، وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا ، وغير واجبة عند أبي حنيفة رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة أصحابنا من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملا تاما ، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه ، وإذا ثبت الاحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك ، أما بيان الاحتمال فيدل عليه قوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) [ البقرة : 124 ] أي فعلهن على سبيل التمام والكمال ، وقوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] أي فافعلوا الصيام تاما إلى الليل ، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال : المراد فاشرعوا في الصيام ثم أتموه ، لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار ، وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله : ( وأتموا الحج ) يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه ، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضا أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه ، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطا ، ويكون التقدير : أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما ، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط ، فكان ذلك أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قرأ بعضهم ( وأقيموا الحج والعمرة لله ) وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالاتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة ، ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما ، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب ، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة ، فكان حمل كلام الله عليه أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أن الباب باب العبادة فكان الاحتياط فيه أولى ، والقول بإيجاب الحج والعمرة معا أقرب إلى الاحتياط ، فوجب حمل اللفظ عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام ، لكنا نقول : اللفظ دل على وجوب الإتمام جزما ، وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجبا جزما والإتمام مسبوق بالشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ، فيلزم أن يكون الشروع واجبا في الحج وفي العمرة .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : روي عن ابن عباس أنه قال : والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله ، أي أن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله : ( أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) [ الحج : 41 ] فهذا تمام تقرير هذه الحجة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : قرأ علي وابن مسعود والشعبي " والعمرة لله " بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذا مدفوع من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن فيها ضعفا في العربية ، لأنها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن قوله : ( والعمرة لله ) معناه أن العمرة عبادة الله ، ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها ، وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين ، وهو غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه لما كان قوله : ( والعمرة لله ) معناه : والعمرة عبادة الله ، وجب [ ص: 120 ] أن يكون العمرة مأمورا بها لقوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله ) [ البينة : 5 ] والأمر للوجوب ، وحينئذ يحصل المقصود .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية في وجوب العمرة : أن قوله تعالى : ( يوم الحج الأكبر ) [ التوبة : 3 ] يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل ، وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق ، وإذا ثبت أن العمرة حج ، وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى : ( وأتموا الحج ) ، ولقوله : ( ولله على الناس حج البيت ) [ آل عمران : 97 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام ، فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنمحمدا رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج وتعتمر . وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس ، عن أبي رزين أنه سأل النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ، فقال - عليه الصلاة والسلام : حج عن أبيك واعتمر ، فأمر بهما ، والأمر للوجوب ، ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت " ، ومنها ما روت عائشة بنت طلحة - رضي الله عنها - عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : في وجوب العمرة ، قال الشافعي رضي الله عنه : اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب ، وحجة من قال العمرة ليست واجبة وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : قصد الأعرابي الذي سأل الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، فقال الأعرابي : هل علي غير هذا ؟ قال : لا إلا أن تطوع ، فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : أفلح الأعرابي إن صدق . وقال عليه الصلاة والسلام : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت " . وقال عليه الصلاة والسلام : " صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم " ، فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها ، وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا ؟ فقال : لا وإن تعتمر خير لك ، وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج جهاد والعمرة تطوع " .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول - عليه الصلاة والسلام - تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وهذا هو الأقرب ، لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر ، فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة ، وأما حديث محمد بن المنكدر ، فقالوا : رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية