الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : استدلت المعتزلة على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى : ( والله لا يحب الفساد ) قالوا : والمحبة عبارة عن الإرادة ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ) [النور : 19] والمراد بذلك أنهم يريدون ، وأيضا نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال : " إن الله أحب لكم ثلاثا ، وكره لكم ثلاثا ، أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تناصحوا من ولاة أمركم ، وكره لكم القيل والقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " فجعل الكراهة ضد المحبة ، ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضدا للإرادة ، وأيضا لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه ؛ لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة ، قالوا : وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله : ( والله لا يحب الفساد ) جار مجرى قوله والله لا يريد الفساد كقوله : ( وما الله يريد ظلما للعباد ) [غافر : 31] بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق ثم قال : ( والله لا يحب الفساد ) إشارة إليه ؛ فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى ، وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقا له ؛ لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال .

                                                                                                                                                                                                                                            والأصحاب أجابوا عنه بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المحبة غير الإرادة بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكر تعظيمه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : إن سلمنا أن المحبة نفس الإرادة ، ولكن قوله : ( والله لا يحب الفساد ) لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد ؛ فترجح الفساد على الصلاح ، إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع ، وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله ، وإلا لزم التسلسل ، فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح ، فكيف يعقل أن يقال : إنه لا يريده .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه عالم بوقوع الفساد ، فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال : إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلا وذلك محال .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الخامسة : قوله تعالى : ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الواحدي : قوله تعالى : ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة ) معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا التفسير ضعيف ، لأن قوله : ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة ) ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة ، فإما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه ، فإن ثبت ذلك [ ص: 173 ] برواية وجب المصير إليه ، وإن كنا نعلم أنه عليه السلام كان يدعو الكل إلى التقوى من غير تخصيص .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : استشهاده بالله كذبا وبهتانا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : سعيه في الفساد .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : سعيه في إهلاك الحرث والنسل .

                                                                                                                                                                                                                                            وكل ذلك فعل منكر قبيح ، وظاهر قوله : ( وإذا قيل له اتق الله ) فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض ، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل : اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد ، وفي اللجاج الباطل ، وفي الاستشهاد بالله كذلك ، وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية