الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن المراد : وتزودوا من التقوى ، والدليل عليه قوله بعد ذلك : ( فإن خير الزاد التقوى ) وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 144 ] سفر في الدنيا ، وسفر من الدنيا ، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد ، وهو الطعام والشراب والمركب والمال ، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضا من زاد ، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم ، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات ، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة ، آمنة من الانقطاع والزوال .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء ، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة ، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس ، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس ، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية ، فكأنه تعالى قال : لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه من كثرة المنافع ، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى :


                                                                                                                                                                                                                                            إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا     ندمت على أن لا تكون كمثله
                                                                                                                                                                                                                                            وأنك لم ترصد كما كان أرصدا



                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : إنا متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم ، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال : وتزودوا ما تبلغون به ؛ فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم ؛ وعن ابن زيد : أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت . وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية ، قال القاضي : وهذا بعيد لأن قوله : ( فإن خير الزاد التقوى ) راجع إلى قوله : ( وتزودوا ) فكان تقديره : وتزودوا من التقوى ، والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات ، قال : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك ، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد : وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل ، فإن خير الزاد التقوى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية