الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وقالون عن نافع " الداعي إذا دعاني " بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفها ، فالأولى على الوصل والثانية على التخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال أبو سليمان الخطابي : الدعاء مصدر من قولك : دعوت الشيء أدعوه دعاء ، ثم أقاموا المصدر مقام الاسم ، تقول : سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتا ، وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم : رجل عدل . وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة . وأقول : اختلف الناس في الدعاء ، فقال بعض الجهال : الدعاء شيء عديم الفائدة ، واحتجوا عليه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع ، فلا حاجة إلى الدعاء ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع ، فلا حاجة أيضا إلى الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته ، وإلا لزم إما التسلسل ، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر ، وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم ، فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان واجب الوقوع ، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان ممتنع الوقوع ، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء البتة أثر ، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا : الأقدار سابقة والأقضية متقدمة ، والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئا منها ، فأي فائدة في الدعاء ، وقال - عليه الصلاة والسلام - قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاما .

                                                                                                                                                                                                                                            وروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " جف القلم بما هو كائن " ، وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " أربع قد فرغ منها : العمر والرزق والخلق والخلق " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه سبحانه علام الغيوب ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) [ غافر : 19 ] فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء ؟ ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى [ ص: 84 ] درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله ، وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى ، والدعاء ينافي ذلك ؛ لأنه اشتغال بالالتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال رواية عن الله سبحانه وتعالى : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " ، قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال الجمهور الأعظم من العقلاء : إن الدعاء أهم مقامات العبودية ، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل ، أما الدلائل النقلية فكثيرة :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية ، أما الأصولية فقوله : ( ويسألونك عن الروح ) [ الإسراء : 85 ] ( ويسألونك عن الجبال ) [ طه : 105 ] ( يسألونك عن الساعة ) [ النازعات : 42 ] ، وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي ( ويسألونك ماذا ينفقون ) [ البقرة : 219 ] ( يسألونك عن الشهر الحرام ) [ البقرة : 217 ] ( يسألونك عن الخمر والميسر ) [ البقرة : 219 ] ( ويسألونك عن اليتامى ) [ البقرة : 220 ] ( ويسألونك عن المحيض ) [ البقرة : 222 ] ، وقال أيضا : ( يسألونك عن الأنفال ) [ الأنفال : 1 ] ( ويسألونك عن ذي القرنين ) [ الكهف : 83 ] ( ويستنبئونك أحق هو ) [ يونس : 53 ] ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) [ النساء : 176 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا ، فنقول : هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع ، فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد : قل ؛ وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله : فقل مع فاء التعقيب ، والسبب فيه أن قوله تعالى : ( ويسألونك عن الجبال ) [ طه : 105 ] ، سؤال عن قدمها وحدوثها ، وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى : ( فقل ينسفها ربي نسفا ) [ طه : 105 ] كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب ، فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكنا في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه ، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب ، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء ، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن قوله : ( وإذا سألك عبادي عني ) يدل على أن العبد له ، وقوله : ( فإني قريب ) يدل على أن الرب للعبد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : لم يقل : فالعبد مني قريب ، بل قال : أنا منه قريب ، وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء ، فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد ، والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلى الحق ؛ فلهذا قال : ( فإني قريب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولا بغير الله فإنه لا يكون داعيا له ، فإذا فني عن الكل صار مستغرقا في معرفة الأحد الحق ، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظا لحقه وطالبا لنصيبه ، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية ، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتا إلى غرض نفسه لم يكن قريبا من الله تعالى ، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله ، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله ، فكان الدعاء أفضل العبادات .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 85 ] الحجة الثانية في فضل الدعاء : قوله تعالى : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال : ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) [ الأنعام : 43 ] ، وقال عليه السلام : " لا ينبغي أن يقول أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول : اللهم اغفر لي " ، وقال عليه السلام : " الدعاء مخ العبادة " ، وعن النعمان بن بشير أنه - عليه السلام - قال : " الدعاء هو العبادة " ، وقرأ ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) ، فقوله : " الدعاء هو العبادة " معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة ، كقوله عليه السلام " الحج عرفة " ، أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : قوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) [ الأعراف : 55 ] ، وقال : ( قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ) [ الفرقان : 77 ] والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الشبهة الأولى : أنها متناقضة ، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء ، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة ، ثم نقول : كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقا بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تتم العبودية ، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه ؟ فقال : بل شيء قد فرغ منه . فقالوا : ففيم العمل إذن ؟ قال : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه - عليه السلام - علقهم بين الأمرين ، فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد ، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال : " كل ميسر لما خلق له " ، يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوده ، إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الشبهة الثانية : إنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام ، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الثالثة : أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الرابعة : أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضي بما قدره الله وقضاه ، فذلك أعظم المقامات ، وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية