الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه : لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رضي الله عنهم : لا يجوز في جميع السنة .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة الشافعي رضي الله عنه قوله : ( الحج أشهر معلومات ) وأشهر جمع تقليل على سبيل التنكير ، فلا يتناول الكل ، وإنما أكثره إلى عشرة ، وأدناه ثلاثة وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى ، فثبت أن المراد أن أشهر الحج ثلاثة ، والمفسرون اتفقوا على أن تلك الثلاثة : شوال ، وذو القعدة ، وبعض من ذي الحجة ، وإذا ثبت هذا فنقول : وجب أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل الوقت ، ويدل عليه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياسا على الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت ؛ لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكما ، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء فلأن لا ينعقد صحيحا لأداء الحج قبل الوقت أولى ؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج ، وهي ليست بمواقيت للحج ، فثبت إذن أنها مواقيت لصحة الإحرام ، ويجوز أن يسمى الإحرام حجا مجازا كما سمي الوقت حجا في قوله : ( الحج أشهر معلومات ) بل هذا أولى ؛ لأن الإحرام إلى الحج أقرب من الوقت .

                                                                                                                                                                                                                                            والحجة الثانية : أن الإحرام التزام للحج ، فجاز تقديمه على الوقت كالنذر .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن الآية التي ذكرناها أخص من الآية التي تمسكتم بها .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثاني : أن الفرق بين النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر للأداء والاتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ ، وأما الإحرام فإنه مع كونه التزاما فهو أيضا شروع في الأداء وعقد عليه ، فلا جرم افتقر إلى الوقت .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( فمن فرض فيهن الحج ) ؛ فيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : معنى "فرض" في اللغة ألزم وأوجب ، يقال : فرضت عليك كذا أي أوجبته ، وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع ، قال ابن الأعرابي : الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره ، وفرضة القوس : الحز الذي يقع فيه الوتر ، وفرضة الوتد : الحز الذي فيه ، ومنه فرض الصلاة وغيرها ؛ لأنها لازمة للعبد ، كلزوم الحز للقدح ، ففرض ههنا بمعنى أوجب ، وقد جاء في القرآن : فرض بمعنى أبان ، وهو قوله : ( سورة أنزلناها وفرضناها ) [النور : 1] بالتخفيف ، وقوله : ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) [التحريم : 2] وهذا أيضا راجع إلى معنى القطع ؛ لأن من قطع شيئا فقد أبانه من غيره ، والله تعالى إذا فرض شيئا أبانه عن غيره ، ففرض بمعنى أوجب ، وفرض بمعنى أبان ، كلاهما يرجع إلى أصل واحد .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 139 ]

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية