الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في قوله تعالى : ( فمن خاف ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن المراد منه هو الخوف والخشية .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : الخوف إنما يصح في أمر منتظر ، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمدا بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق حقه ، أو يعدل عن المستحق ، فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح ؛ لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل ، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم ، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة : أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلانا مع أنه لا يكون مستحقا للزيادة ، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفا من حنث وإثم لا قاطعا عليه ، ولذلك قال تعالى : ( فمن خاف من موص جنفا ) فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في الجواب : أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر ؛ لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان ، فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين ؛ لأن تجويز فسخه يمنع من أن يكون مقطوعا عليه ، فلذلك علقه بالخوف .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث في الجواب : أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي ، فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ ، فلما كان ذلك منتظرا لم يكن حكم الجنف والإثم ماضيا مستقرا ، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين ، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : في تفسير قوله تعالى : ( فمن خاف ) أي فمن علم . والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص ، وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة ، فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر ، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته ، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ، ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك ، فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية