المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) على ثلاثة أقوال :
الأول : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض ، وذلك لأن . المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم
[ ص: 68 ] وأما القسم الأول : فقد ذكر الله حكمه في قوله : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) .
وأما القسم الثاني : وهو ، فإليهما الإشارة بقوله : ( المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم وعلى الذين يطيقونه فدية ) ، فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام .
والثانية : أن يكون مطيقا للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيرا بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية .
القول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) المقيم الصحيح ؛ فخيره الله تعالى أولا بين هذين ، ثم نسخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقا معينا .
القول الثالث : أنه نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم ، قالوا : وتقريره من وجهين أحدهما : أن الوسع فوق الطاقة . فالوسع اسم لمن كان قادرا على الشيء على وجه السهولة ، أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادرا على الشيء مع الشدة والمشقة ، فقوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) أي وعلى . الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة
الوجه الثاني : في تقرير هذا القول القراءة الشاذة " وعلى الذين يطيقونه " فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه ، ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشيء مع ضرب من المشقة .
إذا عرفت هذا فنقول : القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين :
أحدهما : وهو قول السدي : أنه هو الشيخ الهرم ، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ، يروى أن أنسا كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم لكل يوم مسكينا ، وقال آخرون : إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع . سئل عن الحسن البصري ، فقال : فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي . الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وعلى ولديهما
واعلم أنهم أجمعوا على أن ، أما الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية ؟ فقال الحامل والمرضع إذا أفطرتا ، فهل عليهما الفدية - رضي الله عنه : عليهما الفدية ، وقال الشافعي : لا تجب . حجة أبو حنيفة أن قوله : ( الشافعي وعلى الذين يطيقونه فدية ) يتناول الحامل والمرضع ، وأيضا الفدية واجبة على الشيخ الهرم فتكون واجبة أيضا عليهما ، وأبو حنيفة فرق فقال : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه فلا جرم وجبت الفدية ، أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما ، فلو أوجبنا الفدية عليهما أيضا كان ذلك جمعا بين البدلين ، وهو غير جائز لأن القضاء بدل والفدية بدل ، فهذا تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في تفسير قوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه ) .
أما القول الأول : وهو اختيار الأصم فقد احتجوا على صحته من وجوه :
أحدها : أن المرض المذكور في الآية إما أن يكون هو المرض الذي يكون في الآية ، وهو الذي لا يمكن تحمله ، أو المراد كل ما يسمى مرضا ، أو المراد منه ما يكون متوسطا بين هاتين الدرجتين ، والقسم الثاني باطل بالاتفاق ، والقسم الثالث أيضا باطل ؛ لأن المتوسطات لها مراتب كثيرة غير مضبوطة ، وكل مرتبة منها فإنها بالنسبة إلى ما فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما تحتها قوية ، فإذا لم يكن في اللفظ دلالة على تعيين تلك المرتبة مع أن مراد الله هو تلك المرتبة صارت الآية مجملة وهو خلاف الأصل ، ولما بطل هذان القسمان تعين أن المراد هو القسم الأول ، وذلك لأنه مضبوط ، فحمل الآية عليه أولى لأنه لا يفضي إلى صيرورة الآية مجملة .
[ ص: 69 ] إذا ثبت هذا فنقول : أول الآية دل على إيجاب الصوم ، وهو قوله : كتب عليكم الصيام أياما معدودات ثم بين أحوال المعذورين ، ولما كان المعذورون على قسمين : منهم من لا يطيق الصوم أصلا ، ومنهم من يطيقه مع المشقة والشدة ، فالله تعالى ذكر حكم القسم الأول ثم أردفه بحكم القسم الثاني .
الحجة الثانية في تقرير هذا القول : إنه لا يقال في العرف للقادر القوي إنه يطيق هذا الفعل ؛ لأن هذا اللفظ لا يستعمل إلا في حق من يقدر عليه مع ضرب من المشقة .
الحجة الثالثة : أن على أقوالكم لا بد من إيقاع النسخ في هذه الآية وعلى قولنا لا يجب ، ومعلوم أن النسخ كلما كان أقل كان أولى ، فكان المصير إلى غير جائز . إثبات النسخ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه
الحجة الرابعة : أن القائلين بأن هذه الآية منسوخة اتفقوا على أن ناسخها آية شهود الشهر ، وذلك غير جائز لأنه تعالى قال في آخر تلك الآية : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ البقرة : 185 ] ، ولو كانت الآية ناسخة لهذا لما كان قوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) لائقا بهذا الموضع ، لأن هذا التقدير أوجب الصوم على سبيل التضييق ، ورفع وجوبه على سبيل التخيير ، فكان ذلك رفعا لليسر وإثباتا للعسر ، فكيف يليق به أن يقول : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .
واحتج القاضي رحمه الله في فساد قول الأصم فقال : إن قوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) معطوف على المسافر والمريض ، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فبطل قول الأصم .
والجواب : أنا بينا أن المراد من المسافر والمريض المذكورين في الآية هما اللذان لا يمكنهما الصوم البتة ، والمراد من قوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) ، فكانت المغايرة حاصلة فثبت بما بينا أن القول الذي اختاره المسافر والمريض اللذان يمكنهما الصوم الأصم ليس بضعيف ، أما إذا وافقنا الجمهور وسلمنا فساده بقي القولان الآخران ، وأكثر المفسرين والفقهاء على القول الثاني ، واختاره واحتج على فساد القول الثالث ، وهو قول من حمله على الشيخ الهرم والحامل والمرضع بأن قال : لو كان المراد هو الشيخ الهرم لما قال في آخر الآية : ( الشافعي وأن تصوموا خير لكم ) ؛ لأنه لا يطيقه ، ولقائل أن يقول : هذا محمول على الشيخ الهرم الذي يطيق الصوم ولكنه يشق عليه ، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يقال له : لو تحملت هذه المشقة لكان ذلك خيرا لك ، فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثوابا .