أما قوله : ( أنزل فيه القرآن ) اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص ، وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية ، وهو أنه أنزل فيه القرآن ، فلا يبعد أيضا تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم ، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبدا يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية ، والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ، ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم ، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " " ، فثبت أن لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات فلما كان هذا الشهر مختصا بنزول القرآن ، وجب أن يكون مختصا بالصوم ، وفي هذا الموضع أسرار كثيرة والقدر الذي أشرنا إليه كاف ههنا ، ثم ههنا مسائل : بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة
المسألة الأولى : قوله تعالى : ( أنزل فيه القرآن ) في تفسيره قولان :
الأول : وهو اختيار الجمهور : أن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الله تعالى أنزل القرآن في رمضان إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشر والقرآن لأربع وعشرين " وههنا سؤالات : نزلت صحف
السؤال الأول : أن القرآن ما نزل على محمد - عليه الصلاة والسلام - دفعة ، وإنما نزل عليه في مدة ثلاث وعشرين سنة منجما مبعضا ، وكما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشهور ، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان ؟
والجواب عنه من وجهين :
الأول : أن القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى الأرض نجوما ، وإنما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم أو كان في المعلوم أن في ذلك مصلحة للرسول - عليه السلام - في توقع الوحي من أقرب الجهات ، أو كان فيه مصلحة لجبريل عليه السلام ، لأنه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته ، أما فقد شرحناها في [ ص: 73 ] سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى : ( الحكمة في إنزال القرآن على الرسول منجما مفرقا وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ) [ الفرقان : 32 ] .
الجواب الثاني عن هذا السؤال : أن المراد منه أنه ابتدئ إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان وهو قول ، وذلك لأن مبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لكونها أشرف الأوقات ، ولأنها أيضا أوقات مضبوطة معلومة . محمد بن إسحاق
واعلم أن الجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز ، وههنا يحتاج فإنه لا بد على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه .
السؤال الثاني : كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول ، وبين قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] وبين قوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [ الدخان : 3 ] .
والجواب : روي أن ابن عمر استدل بهذه الآية وبقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) أن ليلة القدر لا بد وأن تكون في رمضان ، وذلك لأن ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا في رمضان ، وهذا كمن يقول : لقيت فلانا في هذا الشهر فيقال له : في أي يوم منه فيقول يوم كذا فيكون ذلك تفسيرا للكلام الأول فكذا ههنا .
السؤال الثالث : أن القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال : إن الله تعالى ثم أنزله إلى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر محمد - صلى الله عليه وسلم - منجما إلى آخر عمره ، ويحتمل أيضا أن يقال : إنه سبحانه كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن محمدا - عليه السلام - وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم ينزله على الرسول على قدر الحاجة ثم كذلك أبدا ما دام فأيهما أقرب إلى الصواب ؟
الجواب : كلاهما محتمل ، وذلك لأن قوله : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) يحتمل أن يكون المراد منه الشخص ، وهو رمضان معين ، وأن يكون المراد منه النوع ، وإذا كان كل واحد منهما محتملا صالحا وجب التوقف .
القول الثاني : في تفسير قوله : ( أنزل فيه القرآن ) ، قال : أنزل فيه القرآن معناه أنزل في فضله القرآن ، وهذا اختيار سفيان بن عيينة قال : ومثله أن يقال : أنزل في الصديق كذا آية ؛ يريدون في فضله . قال الحسين بن الفضل : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كما يقول : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها . ابن الأنباري