[ ص: 158 ] أما قوله تعالى : ( كذكركم آباءكم ) ففيه وجوه :
أحدها : وهو قول جمهور المفسرين : أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء ، وابذلوا جهدكم في الثناء على الله ، وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم ؛ لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء ، فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة ، وإن كان صدقا فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور ، وكل ذلك ، فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم ، فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي . من أمهات المهلكات
وثانيها : قال الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم ، واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) [النحل : 81] قالوا : وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه ، أمه أمه ، أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظبا على ذكر أبيه وأمه .
وثالثها : قال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلا لدوام الذكر ، والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك . يجب أن لا يغفل عن ذكر الله
ورابعها : قال في هذه الآية : إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء ، كقوله : وأبي ، وأبيكم ، وجدي ، وجدكم ، فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آباءكم . ابن الأنباري
وخامسها : قال بعض المذكورين : المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آباءكم بالوحدانية ، فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ، ثم كان يثبت لنفسه آلهة ، فقيل لهم : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آباءكم بالوحدانية ، بل المبالغة في التوحيد ههنا أولى من هناك ، وهذا هو المراد بقوله : ( أو أشد ذكرا ) .
وسادسها : أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذاكرا له بالتعظيم ، فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك .
وسابعها : يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكرهم إلى إجابة الدعاء عند الله ، فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة ، إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم ، وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه ، وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يحلفوا بآبائهم فقال : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " إذا كان ما سوى الله فإنما هو لله وبالله ، فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره .
وثامنها : روي عن أنه قال في تفسير هذه الآية : هو أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء . ابن عباس
واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد ، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه ، اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين .