[ ص: 161 ] أما قوله تعالى : ( ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) فالمفسرون ذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة ، والأمن ، والكفاية والولد الصالح ، والزوجة الصالحة ، والنصرة على الأعداء ، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق ، وما أشبهه "حسنة" فقال : ( إن تصبك حسنة تسؤهم ) [التوبة : 50] وقيل في قوله : ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) [التوبة : 52] أنهما الظفر والنصرة والشهادة ، وأما فهي الفوز بالثواب ، والخلاص من العقاب ، وبالجملة فقوله : ( الحسنة في الآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة . روى عن حماد بن سلمة ثابت أنهم قالوا لأنس : ادع لنا ، فقال : "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" قالوا : زدنا فأعادها قالوا : زدنا قال : ما تريدون ؟ قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة . ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه .
وثانيها : أن العمل النافع وهو الإيمان والطاعة ، والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته ، وروى المراد بالحسنة في الدنيا الضحاك عن ابن عباس أن رجلا دعا ربه فقال في دعائه : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) فقال النبي عليه الصلاة والسلام : "ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئا من أمر الدنيا ، فقال بعض الصحابة : بلى يا رسول الله إنه قال : "ربنا آتنا في الدنيا حسنة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه يقول : آتنا في الدنيا عملا صالحا ، وهذا متأكد بقوله تعالى : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) [الفرقان : 74] وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية .
وثالثها : قال قتادة : ، وعن الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين الحسن : الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى ، وفي الآخرة الجنة ، واعلم أن منشأ البحث في الآية أنه لو قيل : آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ، ولكنه قال : ( في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة ، فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة .
فإن قيل : أليس أنه لو قيل : آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان ذلك متناولا لكل الأقسام ، فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير ؟
قلت : الذي أظنه في هذا الموضع - والعلم عند الله - أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول : اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول : اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقا لقضائك وقدرك فأعطني ذلك ، فلو قال : اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما ، وقد بينا أنه غير جائز ، أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين .