[ ص: 315 ] مسألة : ( ويتخير بين إخراج المثل ، أو تقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما ) .
هذا هو إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رحمه الله - وعليه أصحابه ، رواه الميموني والبغوي أبو القاسم ؛ قال في رواية الميموني - في قوله ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) - إلى قوله : ( أو عدل ذلك صياما ) فهو في هذا مخير .
وقال - في رواية أبي القاسم ابن بنت منيع - في - يكفر بما في القرآن فإنما هو تخيير . محرم قتل صيدا
[ ص: 316 ] وعنه رواية أخرى نقلها حنبل وابن الحكم : أن بدل الصيد على التخيير إذا كان مؤسرا ووجد الهدي لم يجزه غيره ، وإن كان مؤسرا ولم يجده اشترى طعاما . فإن كان معسرا صام .
قال - في رواية ابن الحكم - في الفدية : هو بالخيار ، وفي جزاء الصيد لا يكون بالخيار ؛ عليه جزاء الصيد لا يجزئه إلا العدل ليس هو مخير في الهدي والصوم والصدقة .
وقال - في رواية حنبل - : إذا حكم عليه قوم طعاما ، إن قدر على طعام ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما هكذا يروى عن أصاب المحرم صيدا ولم يصب له عدل مثل . ابن عباس
وقال - في رواية - وقد سئل هل يطعم في جزاء الصيد ؟ فقال : لا إنما جعل الطعام في جزاء الصيد : ليعلم الصيام ؛ لأن من قدر على الطعام : قدر على الذبح . هكذا قال الأثرم ، يقوم الصيد دراهم ، ثم يقوم الدراهم طعاما ، ثم يصام لكل نصف صاع يوما ، وهو بناء على غالب الأمر وأن الهدي لا يعدم . ومن أصحابنا من جعل هذا رواية ثالثة في المسألة ؛ فإن الإطعام لا يجزئ في [ ص: 317 ] جزاء الصيد بحال هكذا ذكره ابن عباس أبو بكر ؛ قال : وبراوية حنبل أقول ، وذلك ؛ لأن ، وكذلك أصحابه من بعده أوجبوا في النعامة بدنة وفي الظبي شاة ، وفي الحمام شاة ، وفي الأرنب عناقا ، وفي اليربوع جفرة ، ولم يخيروا السائل بين الهدي وبين الإطعام والصيام ، ولا يجوز تعيين خصلة من خصال خير الله بينها ، كما لو استفتى الحانث في يمين ، فإنه لا يجوز أن يفتى بالعتق عينا بل يذكر له الخصال الثلاث التي خيره الله بينها . النبي - صلى الله عليه وسلم - : قضى في الضبع بكبش
وعن مقسم ، عن - رحمة الله عليهما - في قوله - عز وجل - : ( ابن عباس فجزاء مثل ما قتل من النعم ) قال : إذا حكم عليه جزاؤه ، فإن كان عنده جزاء ذبحه وتصدق بلحمه ، وإن لم يكن عنده قوم جزاؤه دراهم ثم قومت الدراهم طعاما فصام عن كل نصف صاع يوما ، وإنما جعل الطعام للصيام ؛ لأنه إذا وجد الطعام : وجد جزاء " رواه أصاب المحرم الصيد سعيد ورواه دحيم ، وقال : إنما أريد بالطعام الصيام : أنه إذا وجد الطعام : وجد جزاؤه .
وفي رواية له عن ابن الحكم ، عن - في الذي يصيب الصيد - : [ ص: 318 ] يحكم عليه جزاؤه فإن لم يجد حكم عليه ثمنه يقوم طعام يتصدق به ، فإن لم يجد حكم عليه صيام . ابن عباس
وعن نحوه . ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . ابن عمر
وأيضا : فإن هذه كفارة قتل محرم وكانت على الترتيب ككفارة الآدمي .
وأيضا : فإن جزاء الصيد : بدل متلف ، والأصل في بدل المتلف : أن يكون من جنس المتلف ، كبدل النفوس والأموال ، وإنما ينتقل إلى غير الجنس عند تعذر الجنس كما ينتقل إلى الدية عند تعذر القود ، وكما ينتقل إلى قيمة مثل المال المتلف عند أعواز المثل . والهدي من جنس الصيد ؛ لأنه حيوان بخلاف الطعام والصيام .
وأما ذكره بلفظ "أو" فذلك لا يوجب التخيير على العموم بدليل قوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) وإنما يوجب التخيير إذا ابتدئ بأسهل الخصال كقوله : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) وقوله : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ) فلما بدأ بالأسهل : علم أنه يجوز إخراجه . وفي هذه الآية وقع الابتداء بأشد الخصال كما ابتدئ في آية المحاربين فوجب أن يكون على الترتيب .
[ ص: 319 ] ووجه الأولى : - وهي اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه ، ويشبه أن تكون هي المتأخرة ؛ لأن إنما سمع منه آخر بخلاف البغوي ابن الحكم فإن رواياته قديمة ؛ لأنه مات قبل أحمد - : قوله : ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) .
وحرف "أو" إذا جاءت في سياق الأمر والطلب فإنها تفيد التخيير بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، أو إباحة كل منهما على الاجتماع والانفراد كما يقال : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وتعلم الفقه أو النحو . هذا هو الذي ذكره أهل المعرفة بلغة العرب في كتبهم ، قالوا : وإذا كانت في الخبر : فقد تكون للإبهام ، وقد تكون للتقسيم ، وقد تكون للشك . وعلى ما ذكره نخرج معانيها في كلام الله فإن قوله : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) وقوله : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين ) وقوله : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) وإن كان مخرجه مخرج الخبر : فإن معناه : معنى الأمر فيكون الله قد أمر بواحدة من هذه الخصال فيفيد التخيير .
وقوله : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) وقوله : ( تقاتلونهم أو يسلمون ) وقوله : ( ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ) وقوله : ( أو يتوب عليهم أو يعذبهم ) [ ص: 320 ] وأما آية المحاربين : فلم يذكروا في سياق الأمر والطلب ، بل هي في سياق الخبر عن الجزاء الذي يستحقونه ، ثم قد علم من موضع آخر أن إقامة الحدود واجبة على ذي السلطان ؛ ولهذا لا يفهم من مجرد هذا الكلام : إيجاب أحد هذه الخصال ، كما يفهم ذلك من آيات الكفارات ، ثم لو كانت في معرض الاقتضاء إنما ذكرت في سياق النفي ، والنهي ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مثل بالعرنيين نهاه الله سبحانه عن المثلة وبين أنه ليس جزاؤهم إلا واحدة من هذه الخصال فلا ينقصوا عنها ؛ لأجل جرمهم ، ولا يزادوا عليها ؛ لأنه ظلم ، وفي مثل هذا لا تكون أو للتخيير . ولو قيل إن ظاهر لفظها كان للتخيير لكن في سياقها ما يدل على أنه لم يرد للتخيير فإن العقوبات التي تفعل بأهل الجرائم لا يكون الوالي مخيرا تخيير شهوة ، وإرادة بين تخفيفها وتثقيلها ؛ لأن هذا يقتضي إباحة تعذيب الخلق ؛ لأن ذلك القدر الزائد من العذاب له أن يفعله وله أن لا يفعله من غير مصلحة ، ومثل هذا يعلم أنه لا يشرع . فعلم أن مقتضاها العقوبة بواحد منها عندما يقتضيه .
وأما قولهم : تلك الآيات بدأ فيها بالأخف بخلاف آية الجزاء . فنقول : إنما بدأ في آية الصيد : بالجزاء ؛ لأن قدر الإطعام وقدر الصيام مرتب على قدر الجزاء [ ص: 321 ] فما لم يعرف الجزاء : لا يعرف ذلك . ولو بدئ فيها بالصيام : لم يحصل البيان ألا تراه يقول : ( أو عدل ذلك صياما ) وخصال كفارة اليمين وفدية الأذى : كل واحدة قائمة بنفسها غير متعلقة بالأخرى .
وأما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه للجزاء من النعم دون الإطعام والصدقة فذاك - والله أعلم - : لأنهم قصدوا بيان الجزاء من النعم ؛ لأنه هو الذي يحتاج فيه إلى الحكم . والطعام والصدقة : يعرفان بمعرفته ولا يفتقران إلى حكم ؛ ولأن التكفير بالجزاء : أفضل وأحسن ، وهو أهم خصال الجزاء ، وقد كانوا يعلمون من حال السؤال أن قصدهم بيان الجزاء لا ذكر الصدقة والصيام .
وأيضا : ففي الحديث - الذي ذكرناه في بيض النعام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه أن بكل بيضة صوم يوم ، أو إطعام مسكين فقد خيره بين الصدقة والصيام . والخيرة إلى القاتل في الخصال الثلاثة دون الحكمين ؛ لأن الله إنما جعل حكم الحكمين في الجزاء خاصة دون الصدقة والصيام .