ثالثا: أسباب العنف المتعلقة بالجهات الأجنبية:
هذه الأسباب لا تتعلق بالعلوم الفقهية نفسها، ولا بالجهات الفقهية (الفقهاء - المجامع الفقهية - ودور الإفتاء...)، وإنما تتعلق بجهات أجنبية قد يكون لها دور ما في قيام العنف، بقصد وتخطيط أو بغير قصد وبغير توجيه. وهذا الدور يتحدد بحسب طبائع هذه الجهات وسياساتها ومناهجها وتوجهاتها، وبحسب مواقفها من الفقه وعلومه، وبحسب تعاملها وتواصلها مع الجهات الفقهية ومع مؤسسات الفقه وهيئات الاجتهاد والإفتاء، ومع مجمل الأداء الشرعي والعمل الديني.
ويمكن أن نورد في ما يلي أهم الأساليب المتبعة من قبل هذه الجهات إزاء تعاملها مع الجهات الفقهية ورجالاتها وأعمالها:
- الإقصاء الكلي للعلوم الفقهية، واستبعاد عام للفقهاء ودورهم ورسالتهم في نشر العلم وإشاعة الثقافة وبناء المجتمع والحضارة.
وهذا يعبر عن خلفية فكرية ومذهبية لا تعترف بالدين ولا تقتنع بحلوله وبدائله وأحكامه. ولكن هذا لا يتحقق في الواقع بالصورة الكلية والماصدقية، إذ يبقى للفقهاء وجودهم ودورهم العلمي والحضاري، من خلال تعدد صور وكيفيات هذا الوجود والدور، كتلقي العلم من بطون الكتب، ومن ألسنة العلماء الذين يندمجون في المجتمع ولا يمكن إقصاؤهم [ ص: 63 ] اجتماعيا وحضاريا بأي حال من الأحوال، ومن بعض المناسبات التي تتاح بالأسفار والرحلات والمبادلات.
ولا شـك أن هـذه الطـريقة الإقصائية ستـكون سبـبا كبيرا وأساسيا في نشوء حالات العنف وتناميها وتعاظمها وانتشارها، إذ إقصاء هؤلاء الفقهاء ومنع قيام المؤسسات الفقهية سيؤدي إلى الجهل بالدين وإلى الأمية الثقافية، أو إلى المعرفة المهزوزة والمضطربة والسطحية التي لا تخضع في تشكلها وتكونها لمنهجية التعليم والتكوين المتكاملة والمتناسقة. وهذا كله بوابة للفكر المعوج وللسلوك الأعرج الذي يكون العنف أحد مظاهره وعلاماته.
ولا يجوز الاتكاء في اعتماد هذه الطريقة الإقصائية على ادعاء فراغ الفقهـاء أو عجـزهم وقصـورهم في مسايرة الواقع وفي الإضافة للمجتمع، إذ لا يؤيد هذا الادعاء الواقع المحسوس الذي يزخر بالفقهاء العاملين والمساهمين والنوعيين المتميزين، ولا تؤيده الحقيقة العلمية التي تأبى التعميم والإطلاق المجردين من الموضوعية والدقـة والإحـاطـة، فـوجود فقيه فارغ أو مجموعة فقهاء مقصرين وغير متميزين لا يعني اتهام كل الفقهاء بذلك، فهذا تعميم باطل وجهل كبير وتبرير مردود مطروح.
- الإقصاء الانتقائي، الذي لا يقصي العلوم الفقهية كلها أو كل العاملين في الحقل الفقهي، وإنما ينتقي شيئا ليقصيه، ويشمل هذا الانتقاء بعض الأشخاص الفقهيين، أو بعض المضامين المعرفية الفقهية، أو انتقاء بعض الأحوال والأجواء، فانتقاء الأشخاص معناه إقصـاء بعض الفقهاء الذين لا تـوافق عليـهم جهـة مـا أو كتلة ما، لاتجاههم المذهبي الفقهي [ ص: 64 ] أو لشجاعتهم وجرأتهم، أو لبعض المواقف والآراء، أو لاتساع شهرتهم وتعاظم خبرهم وأثرهم، أو لأي سبب آخر.
أما انتقاء المضامين فمعناه إقصاء بعض المضامين المعرفية الشرعية والموضـوعات الفقهيـة التي لا تسـاير بعض التوجهات والخيارات الفكرية أو الثقافية السائدة، وهو ما يؤدي إلى إفراغ العلوم الفقهية من كثير من محتوياتها وحقائقها المكونة لها.
وينشأ عن هذا فكر مهزوز وتكوين يشكو من فراغات كثيرة قد تؤدي إلى فراغات سلوكية وحضارية لها أثرها في انعدام الوسطية والسماحة والإضافة، وفي حصول التوتر والاضطراب والقلاقل.
أما انتقـاء بعـض الأحـوال والأجواء فمعناه إقصاء بعض المناسبات أو الظروف أو المقامات، التي يتنـزل فيها الفقه وعلومه للمعالجة والتوجيه والإصلاح، أو الوقوع في سوء اختيار الأحوال، التي تتحقق فيها الإفادة من العلوم الفقهية ومن توجيه الفقهاء وإسهامهم في النهوض الاجتماعي والحضاري، كأن تختار أوقات ميتة للبث الفقهي، أو تختار أسوأ المواقع وأبعد المعالم لنشر الفقه وتعليم علومه، وغير ذلك كثير.
إن الانتقاء بصوره الثلاث (الأشخاص- المضامين- الأحوال)، سيؤدي إلى إقصاء جزئي وبعضي للدور الفقهي، وسيخل بالجوهر الكامل والبنيان المتكامل للعلوم الفقهية وأثرها الحضاري والسلمي والأمني مما يؤسس إلى ثقافة الهرج والمرج والعنف والتعنيف. [ ص: 65 ]