ولا يجوز أن يجعل قضاؤه إنشاء ; لأن ولاية الإنشاء لم تثبت له فإن سبب ولايته دعوى المدعي وشهادة شهوده وهو إنما ادعى عقدا سابقا وبذلك شهد شهوده فلا يتمكن القاضي من القضاء بما لم يدعه المدعي ولا يشهد به الشهود ، ولأن القاضي لم يقصد إنشاء العقد بينهما ، وإنما ينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده .
( ألا ترى ) أن قضاءه في الأملاك المرسلة لا ينفذ باطنا لهذا المعنى ولا يجعل ذلك إنشاء تمليك منه ، وبه فارق ; لأنه قصد الإنشاء هنا ، وما ظهر عنده من الحجة يصلح للإنشاء أيضا ، وكذلك في المجتهدات يثبت له ولاية الإنشاء بما لاح عنده من الدليل وقضاؤه إنشاء أيضا بطريق القصد منه إلى ذلك . قضاء القاضي بالفرقة بين المتلاعنين وبيعة التركة في الدين الثابت بشهادة الزور
فأما هنا إنما قصد الإمضاء فلا يمكن أن يجعل منشئا .
( ألا ترى ) أن لم يثبت النكاح بينهما باطنا بهذا الإقرار وهما يملكان الإنشاء ، ولكنهما بالإقرار أظهرا عقدا قد كان بينهما فلا يجعل ذلك إنشاء منهما ، ولأن المدعي متيقن بما لو تبين القاضي به امتنع من القضاء فلا ينفذ قضاؤه في حقه ، وإن كان القاضي معذورا لخفاء هذه الحقيقة عليه كما لو كانت امرأة مجوسية ، أو مرتدة ، أو منكوحة الغير ، أو أخته من الرضاعة والدليل على أن قضاءه ليس بإنشاء أنه لا يستدعي شرائط الإنشاء من الشهود والمهر والولي رجلا وامرأة لو أقرا بالنكاح وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما رحمه الله احتج بما روي أن رجلا ادعى على امرأة نكاحا بين يدي وأبو حنيفة رضي الله عنه وأقام شاهدين فقضى علي رضي الله عنه بالنكاح بينهما فقالت المرأة إن لم يكن بدا يا أمير المؤمنين فزوجني منه فإنه لا نكاح بيننا فقال علي شاهداك [ ص: 182 ] زوجاك فقد طلبت منه أن يعفها عن الزنا بل يعقد النكاح بينهما فلم يجبها إلى ذلك ولا يقال إنما يجبها إلى ذلك ; لأن الزوج لم يرض بذلك ; لأنا نقول ليس كذلك بل الزوج راض ; لأنه يدعي النكاح والمرأة رضيت أيضا حيث قالت فزوجني منه وكان يتيسر عليه ذلك فقد كان الزوج راغبا فيها ، ثم لم يشتغل به وبين أن مقصودهما قد حصل بقضائه فقال شاهداك زوجاك أي ألزماني القضاء بالنكاح بينكما فثبت النكاح بقضاء ، وما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة بالرأي ويتبين بهذا أن ما استدلوا به من الآية والحديث في الأملاك المرسلة ، وبه يقول والمعنى فيه أنه قضى بأمر الله تعالى فيما له فيه ولاية الإنشاء علي
وقضاؤه بأمر الله تعالى يكون نافذا حقيقة لاستحالة القول بأن يأمر الله تعالى بالقضاء ، ثم لا ينفد ذلك القضاء منه وبيان الوصف أنه لما تفحص عن أحوال الشهود وزكوا عنده سرا وعلانية وجب عليه القضاء بشهادتهم حتى لو امتنع من ذلك يأثم ويخرج ويعزل ويعذر فعرفنا أنه صار مأمورا بالقضاء ، وهذا ; لأنه لا طريق له إلى معرفة حقيقة الصدق والكذب من الشهادة ; لأن الله تعالى لم يجعل لنا طريقا إلى معرفة حقيقة الصدق من خبر من هو غير معصوم عن الكذب ولا يتوجه عليه شرعا لوقوف على ما لا طريق له إلى معرفته ; لأن التكليف بحسب الوسع والذي في وسعه التعرف عن أحوال الشهود فإن استقصى ذلك غاية الاستقصاء فقد أتى بما في وسعه وصار مأمورا بالقضاء ; لأن ما وراء هذا ساقط عنه باعتبار أنه ليس في وسعه ، ثم إنما يتوجه عليه الأمر بحسب الإمكان والمأمور به أن يجعلها بقضائه زوجته فلذلك طريقان إظهار نكاح إن كان ، وإنشاء عقد بينهما . فإذا لم يسبق منهما عقد تعذر إظهاره بالقضاء فيتعين الإنشاء إذا ليس هنا طريق آخر فيثبت له ولاية الإنشاء بهذا النوع من الدليل الشرعي ويجعل إنشاءه كإنشاء الخصمين فيثبت الحل به بينهما حقيقة بل قضاؤه أولى وأقوى من إنشاء الخصمين عن اتفاق .
( ألا ترى ) أن في المجتهدات صفة اللزوم يثبت بإنشاء القاضي ولا يثبت بإنشاء الخصمين فعرفنا أن قضاءه أقوى من إنشاء الخصمين .