الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
6020 - (قال الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) (م) عن أبي ذر- (صح) .

التالي السابق


(قال الله تعالى: يا عبادي) جمع عبد وهو لغة الإنسان والمراد هنا بدلالة قوله الآتي: (إنسكم وجنكم) الثقلان خاصة لاختصاص التكليف وتعاقب الفجور والتقوى، ولذلك فصل المخاطبين بالإنس والجن فيما يأتي ذكره القاضي قال: وقد يكون عاما شاملا لذوي العلم كلهم من الملائكة والثقلين ويكون ذكر الملائكة مطويا مندرجا في قوله: (وجنكم) لشمول الاجتنان لهم، وتوجه هذا الخطاب نحوهم لا يتوقف على صدور الفجور منهم ولا على إمكانه؛ لأنه كلام صادر على سبيل الفرض والتقدير، واعترضه الطيبي بأنه يمكن أن يكون الخطاب عاما ولا تدخل الملائكة في الجن؛ لأن الإضافة في (جنكم) تقتضي المغايرة فلا يكون تفصيلا بل إخراج لغير القبيلتين الذين يصح اتصافهما بالتقوى والفجور (إني حرمت) ؛ أي: منعت (الظلم على نفسي) ؛ أي: تقدست وتعاليت عنه؛ لأنه مجاوزة، والتصرف في ملك الغير، وكلاهما في حقي كالمحرم، فهو استعارة مصرحة تبعية، شبه تنزهه عنه بتحرز المكلف عما نهى عنه شرعا في الامتناع عنه ثم استعمل في جانب ما كان مستعملا في جانب المشبه به مبالغة ويحتمل كونه مشاكلة لقوله تعالى: وجعلته بينكم محرما ذكره الطيبي . قال العارف ابن عربي : من لم يخرج شيئا في الحقيقة عن ملكه فلا يتصف بالظلم فيما يجريه حكمه في ملكه ثم إنه قدم ذلك تمهيدا وتوطئة لقوله (وجعلته محرما بينكم) ؛ أي: حكمت بتحريمه عليكم، وهذا وما قبله توطئة لقوله (فلا تظالموا) بشد الظاء وتخفف، أصله تتظالموا؛ أي: لا يظلم بعضكم بعضا فإنه لا بد من اقتصاصه تعالى للمظلوم من ظالمه، ولما قرر حرمة الظلم على النفس وعباده أتبعه بذكر إحسانه إليهم وغناه عنهم وفقرهم إليه فقال (يا عبادي) كرر النداء تنبيها على فخامة الأمور ونسبة الضلال إلى الكل بحسب مراتبهم (كلكم ضال) ؛ أي: غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل ووجدك ضالا فهدى ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان أو ضال عن الحق لو ترك وما

[ ص: 477 ] يدعو له الطبع من الراحة، وإعمال النظر المؤدي إلى المعرفة وامتثال الأمر وتجنب النهي (إلا من هديته) وفقته للإيمان أو للخروج عن مقتضى طبعه ولا يناقضه خبر (كل مولود يولد على الفطرة) ؛ لأن ذلك ضلال طارئ على الفطرة الأولى (فاستهدوني) سلوني الهداية بمعنى الدلالة على طريق الخير والإيصال إليها (أهدكم) أنصب لكم أدلة واضحة على ذلك، أو أوصل من شئت إيصاله في سابق علمي الأزلي من يهد الله فهو المهتدي وحكمة الطلب إظهار الافتقار والإذعان والاعتراف بمقام الربوبية ورتبة العبودية. قال الراغب : الضلال العدول عن الطريق المستقيم ويضاده الهداية ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمدا أو سهوا قليلا أو كثيرا فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتقى صعب جدا ونحن وإن كنا مصيبين من وجه لكنا ضالين من وجوه كثيرة فإن الاستقامة والصواب يجري مجرى المقرطس من المرمى وما عداه من الجوانب كلها ضلال وإليه أشار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (استقيموا ولن تحصوا) فإذا كان كذلك صح أن يستعمل لفظ الضلال فيمن يكون له حظ ما ولذلك نسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار وإن كان بين الضالين بون بعيد. قال في حق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ووجدك ضالا فهدى ؛ أي: غير مهتد لما سبق لك من النبوة، وقال موسى وأنا من الضالين تنبيها على أن ذلك منه سهو اهـ ولما فرغ من الامتنان بأمور الدين شرع في الامتنان بأمور الدنيا وبدأ بما هو أصل فيها ومكمل لمنافعها من الشبع واللبس؛ إذ لا يستغنى عنهما، ومن ثم وصف الجنة بقوله إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى فقال (يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته) ؛ لأن الخلق ملكه ولا ملك لهم بالحقيقة، وخزائن الرزق بيده فمن لا يطعمه بفضله بقي جائعا بعدله وأما وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فهو التزام تفضلا لا وجوبا (فاستطعموني) اطلبوا مني الطعام؛ لأنه في يده تعالى وما في يد العبد ليس بحوله وقوته فلا يد له بالحقيقة بل اليد لرب الخليقة (أطعمكم) أيسر لكم أسباب تحصيله إن الله هو الرزاق وهذا تأديب للفقراء فكأنه قال: لا تطلبوا الطعمة من غيري فإن الذين استطعمتموهم أنا الذي أطعمهم. قال الطيبي: إن قلت: ما معنى الاستثناء في قوله (إلا من أطعمته، وإلا من كسوته) وليس أحد من الناس محروما عنهما؟ قلت لما كان الإطعام والكسوة معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق، وعدمهما عن التقتير والتضييق كما قال تعالى الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر سهل التقصي عن الجواب فظهر منه أنه ليس المراد من إثبات الجوع والعري في المستثنى منه نفي الشبع والكسوة بالكلية وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقا بل المراد بسطهما وتكثيرهما (يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) واسألوا الله من فضله فإنه لا حول ولا قوة إلا به ولا استمساك إلا بسببه، قال عيسى: ابن آدم أنت أسوأ بربك ظنا حين كنت أكمل عقلا؛ لأنك تركت الحرص حين كنت جنينا محمولا ورضيعا مكفولا، ثم ادرعته عاقلا قد أصبت رشدك وبلغت أشدك (يا عبادي إنكم تخطئون) بضم أوله وكسر ثالثه؛ أي: تفعلون الخطيئة عمدا وبفتح أوله وثالثه من خطئ يخطأ، إذا فعل عن قصد (بالليل والنهار) هذا من قبيل المقابلة لاستحالة وقوع الخطإ من كل منهم ليلا ونهارا (وأنا أغفر الذنوب جميعا) غير الشرك وما لا يشاء مغفرته إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأكد بأل الاستغراقية وجميعا، المفيد كل منهما للعموم ليقوى الرجاء ولا يقنط أحد (فاستغفروني أغفر لكم) وإني لغفار لمن تاب ووطأ بعد الفاء بما قبلها إيذانا بأن غير المعصوم لا ينفك غالبا عن المعصية، وفي هذه الجمل توبيخ يستحي منه كل مؤمن؛ لأنه إذا لمح أنه

[ ص: 478 ] خلق الليل ليطاع فيه سرا استحياء أن ينفق أوقاته في ذلك إلا فيه كما أنه استحى بطبعه من صرف شيء من النهار حيث يراه الخلق للمعصية (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) بحذف نون الإعراب جوابا عن النفي؛ أي: لن تبلغوا لعجزكم إلى مضرتي ولا يستقيم ولا يصح أن تضروني حتى أتضرر منكم (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) ؛ أي: لا يتعلق بي ضرر ولا نفع فتضروني أو تنفعوني؛ لأنه تعالى غني مطلق والعبد فقير مطلق والفقير المطلق لا يملك للغني المطلق ضرا ولا نفعا، فما اقتضاه ظاهر الخبر أن لضره أو نفعه غاية لكي لا يبلغها العبد غير مراد (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم) ؛ أي: على تقوى أتقى قلب رجل أو على أتقى أحوال قلب رجل واحد منكم، ذكره القاضي قال الطيبي: ولا بد منه ليستقيم أن يقع أتقى خبرا لكان ثم إنه لم يرد أن كلهم بمنزلة رجل واحد هو أتقى من الناس بل كل واحد من الجمع بمنزلته؛ لأن هذا أبلغ كقولك ركبوا فرسهم وعليه قوله تعالى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم في وجه، ثم إضافة أفعل إلى نكرة مفردة يدل على أنك لو تقصيت قلب رجل رجل بل كل الخلائق لم تجد أتقى قلبا من هذا الرجل اهـ. (ما زاد ذلك في ملكي شيئا) نكره للتحقير (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا) ؛ لأنه مرتبط بقدرته وإرادته وهما باقيتان ذاتيتان لا انقطاع لهما، فكذا ما ارتبط بهما وعائد التقوى والفجور على فاعلهما قال الطيبي: قوله شيئا يجوز كونه مفعولا إن قلنا أن نقص متعد ومفعولا مطلقا إن قلنا إنه لازم؛ أي: نقص نقصانا قليلا، والتنكير فيه للتحقير (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) ؛ أي: في أرض واحدة ومقام واحد (فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي) ؛ لأن أمري بين الكاف والنون، قال القاضي : قيد السؤال بالاجتماع في مقام واحد؛ لأن تزاحم السؤال مما يذهل المسؤول ويبهته ويعسر عليه إنجاح مآربهم والإسعاف بمطالبهم (إلا كما ينقص المخيط) بكسر فسكون ففتح الإبرة (إذا أدخل البحر) ؛ لأن النقص إنما يدخل المحدود الفاني، والله سبحانه واسع الفضل عظيم النوال لا ينقص العطاء خزائنه فخاطب العباد من حيث يعقلون، وضرب لهم المثل بما هو غاية القلة ونهاية ما يشاهدونه فإن البحر من أعظم المرئيات والإبرة صغيرة صقيلة لا يعلق بها شيء وإن فرض لكنه لا يظهر حسا ولا يعتد به عقلا فلذا شبه بها (يا عبادي إنما هي أعمالكم) ؛ أي: هي جزاء أعمالكم (أحصيها) أضبطها وأحفظها (لكم) ؛ أي: بعلمي وملائكتي الحفظة (ثم أوفيكم إياها) ؛ أي: أعطيكم جزاءها وافيا تاما إن خيرا فخير وإن شرا فشر والتوفية إعطاء الحق على التمام ذكره القاضي، وقال المظهر: أعمالكم تفسير لضمير المؤنث في قوله (إنما هي) يعني إنما تحصى أعمالكم؛ أي: تعد وتكتب أعمالكم من الخير والشر توفية لجزاء عمل أحدكم على التمام، وقال الطيبي: ويمكن أن يرجع إلى ما يفهم من قوله أتقى قلب رجل وأفجر قلب رجل وهما الأعمال الصالحة والطالحة ويشهد لفظ إنما لاستدعائها الحصر؛ أي: ليس نفعها وضرها راجعا إلي بل أحصيها لكم لأجازيكم بها فمن وجد خيرا فليشكر الله؛ لأنه هو هادي الضلال موفقهم للخير، ومن وجد شرا فليلم نفسه؛ لأنه باق على ضلالته الذي أشار إليه بقوله كلكم ضال اهـ. والتوفية إعطاء الحق على التمام، قال ابن عربي : ولهذا يعود التنزيه على المنزه فمن كان علمه التنزيه عاد عليه تنزيهه فكان محاه منزها

[ ص: 479 ] عن أن يقوم به اعتقاد ما لا ينبغي أن يكون الحق عليه، ومن هنا قال من قال سبحاني تعظيما لجلال الله إلى هنا كلامه (فمن وجد خيرا) ثوابا ونعيما بأن وفق لأسبابهما أو حياة طيبة هنيئة (فليحمد الله) على توفيقه للطاعات التي يترتب عليها ذلك الخير والثواب فضلا منه ورحمة (ومن وجد غير ذلك) ؛ أي: شرا ولم يذكره بلفظه تعليما لخلقه كيفية أدب النطق بالكناية عما يؤذي أو يستهجن أو يستحى منه، أو إشارة إلى أنه إذا اجتنب لفظه فكيف فعله؟ (فلا يلومن إلا نفسه) فإنها آثرت شهواتها على رضى رزاقها فكفرت لأنعمه ولم تذعن لأحكامه وحكمه فاستحقت أن يقابلها بمظهر عدله وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، قال ابن عطاء الله : لا تطالب ربك بتأخر مطلبك ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك وفي الحديث إيماء إلى ذم ابن آدم وقلة إنصافه فإنه يحسب طاعته من عمله لنفسه ولا يسندها إلى التوفيق ويتبرأ من معاصيه ويسندها إلى الأقدار فإن كان لا تصرف له كما يزعم فهلا كان في الأمرين وإلا فلم نفاه عن أحدهما؟ وختم بهذه إيذانا بأن عدم الاستقلال بنحو الإطعام والستر لا ينافي التكليف بالفعل والترك؛ لأنا وإن لم نستقل نحس بوجدان الفرق بين حركة الاختيار والاضطرار، وهذا الحديث لجلالته وعظم فوائده كان راويه عن أبي ذر أبو إدريس إذا حدث به جثا على ركبتيه تعظيما له

[تنبيه] قال القونوي : الحق سبحانه جواد مطلق فياض على الدوام سابغ الإنعام دون بخل ولا التماس عوض ولا تخصيص طائفة بعينها تخصيصا يوهم منعا وتحجيرا على آخرين والخلائق كلهم يقبلون من عطاياه الذاتية والأسمائية بقدر استعداداتهم الكلية الغير المجعولة التي بها قبلوا منه الوجود أو لا حال ارتسامهم في علمه تقدس، ويقبلون من عطائه باستعداداتهم التفصيلية الوجودية المجعولة بحسب طهارتهم الظاهرة والباطنة الوجودية وإنما قلنا الوجودية؛ لأن الطهارة المختصة بالاستعداد الكلي الموجب قبول الوجود من الحق القبول التمام عبارة عن سلامة حقيقة القابل من أكثر أحكام الإمكان وقوة مناسبة تلك الحقيقة للحضرة الوحدانية الإلهية التي منها ينبسط على جميع القوابل الممكنة وهي الطهارة الأصلية وكما أن قلة الوسائط وأحكام الكثرة الإمكانية توجب الطهارة وثبوت المناسبة مع الحضرة الوحدانية الإلهية فيستلزم قبول العطايا الإلهية على وجه تام فكذلك كثرة الأحكام الإمكانية وقوتها وخواص إمكانات الوسائط التي هي النجاسات المعنوية يوجب نقص القبول وتغيير الفيض المقدس فإذا وضح هذا فنقول وفور الحظوظ من عطاياه سبحانه الذاتية والأسمائية ونقصانها راجع إلى كمال استعدادات القوابل ونقصها، وكمال استعداد كل قابل ونقصه هو المعبر عنه بالطهارة والنجاسة عند أهل الطريق وذلك هو المشار إليه بقوله في هذا الحديث فمن وجد خيرا فليحمد الله إلخ ويؤيده ما أصابك من حسنة فمن الله الآية

(م) في الأدب (عن أبي ذر ) وأخرجه عنه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه ورواته دمشقيون، قال أحمد : ليس لأهل الشام حديث أشرف منه



الخدمات العلمية