واعلم أن ، فالعقلية يمتنع تخصيصها بإجماع أهل النظر كما نقله العلة إما عقلية أو سمعية ابن فورك والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو منصور وابن عبدان ، في شرائط الأحكام ، وغيرهم . وإنما ، فإن كانت مستنبطة فجزم اختلفوا في الشرعية . وهي إما أن تكون مستنبطة أو منصوصة الماوردي والروياني بامتناع تخصيصها على معنى أن العلة لا تبقى حجة فيما وراء الحكم المخصوص لبطلان الوثوق بها ، وقال : عند ابن فورك لا يجوز تخصيصها ، وقال الشافعي ابن كج : إنه قول أصحاب . قال الشافعي [ ص: 172 ] أجمع عليه أصحاب الأستاذ أبو منصور ، وكذلك قال صاحب " البيان " في باب الربا : إنه لا خلاف فيه عندنا ، وإنما الخلاف في المنصوصة . وقال الشافعي الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : اتفق عليه أهل الحجاز والبصرة والشام ، وبه قال أكثر العراقيين ، وزعم أهل الكوفة أنه لا يمتنع . وأطلق ابن الصباغ في " العدة " منع تخصيص العلة وإن كانت منصوصة . فمن جوز تخصيص المستنبطة جوز هذه أيضا ، ومن منع هناك اختلفوا على قولين ، وهما وجهان لأصحابنا .
أحدهما : المنع ، كالمستنبطة . قال : والفرق بينها وبين اللفظ العام حيث جاز تخصيصه أن العام لا يجوز إطلاقه على بعض ما يتناوله ، فإذا ورد لم ينافه ، وأما العلة المستنبطة فإنما انتزعها القائس من الأصل ، ومقتضاه الاطراد ، وقال القفال الشاشي الأستاذ أبو إسحاق : هذا قول الجمهور وهو الصحيح . وقال القاضي في " التقريب " إنه قول الجمهور من الفقهاء ، ثم اختاره القاضي آخرا وجزم به ، ونصره في " كتاب الجدل " له ، وكذا الخفاف في " الخصال " وقال القاضي أبو علي بن أبي هريرة : إنه الصحيح عندنا ، وقال الأستاذ أبو منصور إلكيا : إنه المشهور عند أصحاب . [ ص: 173 ] وقال في " القواطع " : إنه مذهب الشافعي وجميع أصحابه إلا القليل منهم ، وهو قول كثير من الشافعي المتكلمين ، وقالوا : تخصيصها نقض لها ، ونقضها يتضمن إبطالها . قال : وبه قال عامة الخراسانيين من الحنفية . قال أبو منصور الماتريدي تخصيص العلة باطل ، ومن قال بتخصيص العلة فقد وصف الله تعالى بالسفه والعبث ، لأنه أي فائدة في وجود العلة ولا حكم إذ العلة شرعت للحكم ، والكلام في العلل الشرعية ، فإذا خلا الفعل عن العاقبة الحميدة يكون عبثا . والدليل على فساد تخصيص العلة ، أن دليل الخصوص يشبه الإبداء أو الناسخ وكلاهما لا يدخل العلل . وقال في " الملخص " لا يجوز تخصيص العلة سواء المنصوصة والمستنبطة في قول أصحابنا وأكثر أصحاب القاضي عبد الوهاب وبعض الحنفية . الشافعي
وقال الغزالي في " المنخول " : المختار أن التخصيص لا يتطرق إلى جوهر علة الشارع ، فإنه من أعم الصيغ ، ولا نظن برسول الله أن ينصب علما ثم ينتفي الحكم مع وجوده من غير سبب ، نعم يتطرق إلى محل كلامه بتخصيص بعض المحال ، بدليل قوله تعالى { والسارق والسارقة } { الزانية والزاني فاجلدوا } فيذكر المحل دون العلة .
والثاني : الجواز ، ونقل عن ابن سريج ، وقال أبو الحسين : إنه ظاهر مذهب وهو الذي أورده الشافعي ابن كج في كتابه . قال : والفرق بينها وبين المستنبطة حيث امتنع فيها أن المنصوصة في الحقيقة ليست بعلة ، بل هي كالاسم يدل على الحكم بدلالة العموم ، وأيضا فإنما جاز تخصيصها لأن واضعها قد علم أنه لم يرد بها عند إطلاقها العموم فصار كالاستثناء ، والمعلل يقصد بالعلة جميع معلولاتها ، فإذا وجدت ولا حكم كان نقضا ، وحكاه [ ص: 174 ] عن أهل القاضي عبد الوهاب العراق . قال : وحكاه الهمداني عن أصحابنا والأمر بخلاف ما قاله . انتهى . قال إلكيا : وإليه ذهب قدماء الحنفية ، ونقله ابن برهان في " الوجيز " عن الأستاذ أبي إسحاق . - وفيه نظر لما سبق عنه - ونقله ابن السمعاني عن عامة العراقيين من الحنفية . قال : ومنهم أبو زيد وادعى أنه مذهب وأصحابه . قال : واختلف أصحاب أبي حنيفة في ذلك على قولين . وقال مالك ابن برهان في " الأوسط " : وأما أصحاب فالمتقدمون منهم وافقوا أبي حنيفة على المنع ، والمتأخرون الشافعي كأبي زيد جوزوا ورجع بعضهم عن ذلك وهم أهل ما وراء النهر . انتهى . وقال القاضي في " التقريب " : جوز قوم من أسلاف أصحاب تخصيصها مستنبطة ومنصوصة ، وزعموا أنه قول أبي حنيفة ، وحكى بعضهم ذلك عن أبي حنيفة وهو غير ثابت عنه ، ومن أصحابه من يجيزه ، وأنكر كثير من أصحاب مالك القول بتخصيص العلة وأن يكون ذلك قولا أبي حنيفة وقالوا : إنما يترك بعض أسلافنا الحكم لأجل علة أخرى وهي أولى منها فأما على وجه تخصيصها فلا . وهذا اعتذار منهم وتحام للقول بتخصيصها . وتحصل في المسألة مذاهب : لأبي حنيفة
ثالثها : المنع في المستنبطة ، والجواز في المنصوصة .
وفيها مذهب رابع : وهو تجويز تخصيصها في أصل المذهب ، وأما في علة النظر . فلا يجوز ، حكاه السهيلي في " أدب الجدل " عن بعض الحنفية . قال : وهو فاسد لأن التعليل في الناظرة إنما يثبت المذهب ، فوجب القول بجواز ما فيه وهو قريب من اختيار ابن برهان في " الوجيز " شرط الاطراد في المناظرة حتى أنه ليس له الاحتراز عن النقض الذي أورده الخصم . والجواز في المجتهد نفسه حتى أن له الرجوع إلى ذلك . وفيها مذهب : خامس : حكاه القاضي في " التقريب " عن بعض [ ص: 175 ] القدرية وهو التفصيل بين علة الإقدام فيجوز تخصيصها ، وبين علة ترك الفعل فلا يجوز ، بل يكون علة لتركه واجتنابه أين وجدت . قال : وهذا القول خروج عن إجماع الأمة وربما عزي لقدماء الحنفية . قال : ابن فورك طريقة في تخصيص العلة والعموم فيقول : إن تخصيصها سواء ، وهو أنه إنما يمتنع تخصيص العلة المطلقة كما يمتنع تخصيص العام المطلق ، وأما إذا اقترنت بهما قرينة فيعلم أن ذلك كان فيها في الابتداء وليس ذلك نقضا ، والنقض أن يقال : كانت مطلقة فقيدت الآن ، فعلى هذا يسقط ما قاله الخصم تخصيصا من علل السمع ، بل تبين بالقرينة ، أنها وقعت في الابتداء مقيدة . ثم الكلام في تحرير أمور : ولأبي علي بن أبي هريرة
أحدها : أن الغزالي ذكر في " شفاء العليل " أنه لم يصح عن الشافعي التصريح بتخصيص العلة أو منعه ، ونقل وأبي حنيفة الدبوسي تعليلات عنهما منقوضة . قال : وهذا يدل على قبولها التخصيص . انتهى .
ويوافقه ما ذكره الصيرفي في كتاب " الأعلام " أن المجوزين قاسوا بقول : " القياس كذا لولا الأثر " و " النظر كذا لولا الخبر " ، وكذا الشافعي يقول : " القياس كذا إلا أني أستحسن " ، ولولا الأثر لكان القياس كذا . فلو كانوا يبطلون الأصل الذي جرى القياس فيه لما وجدوا الأثر في العين التي جاء الأثر فيها ، انتهى . أبو حنيفة
وقال القاضي في " التقريب " : نقل جماعة عن جواز التخصيص مطلقا ، وحكى عن أبي حنيفة أيضا . وهو غير ثابت عنه . وأنكر كثير من الحنفية القول بتخصيص العلة وأن يكون ذلك قولا مالك وقال : إنما يترك بعض أسلافنا الحكم بعلة لأجل علة أخرى هي أولى منها ، [ ص: 176 ] لأبي حنيفة
فأما على وجه تخصيصها فلا ، وإنما هذا اعتذار وتحام عن القول بتخصيصها . ونقل ابن فورك وابن السمعاني وغيرهما عن المنع . الشافعي
وقال ابن برهان في " الأوسط " : إن نص على أن القول بتخصيص العلة باطل ، وأن الشافعي القاضي قال : لو صح عندي أن قال بتخصيص العلة ما كنت أعده من جملة الأصوليين . وذكر صاحب " المعتمد " أن في كلام الشافعي جوازه ، قال : وذكر أقضى القضاة يعني الشافعي عبد الجبار - في " الشرح " أن لا يجيز ذلك وإنما يعدل عن حكم علة إلى علة أخرى . والمعلوم من مذهبه أنه شرط في العلة التأثير حتى لا تنتقض . الشافعي
قلت : وفي كلام في " الأم " ما يقتضي الجواز ، فإنه قال : ويسن سنة في نص معين فيحفظها حافظ وليس يخالفه في معنى ، ويجامعه سنة غيرها لاختلاف الحالين فيحفظ غيره تلك السنة . فإذا أدى كل ما حفظ رأى بعض السامعين اختلافا ، وليس فيه شيء مختلف ، انتهى . وترجم عليه الشافعي ابن اللبان في " ترتيب الأم " جواز تخصيص العلة وأن المناسبة لا تبطل بالمعارضة . [ ص: 177 ]
الثاني : مثل ابن السمعاني المسألة بقول الحنفية في علة الربا في الذهب والفضة : هو الوزن ، وجعلوا لذلك فروعا من الموزونات ، ثم جوزوا إسلام الدراهم في الزعفران والحديد والنحاس مع اجتماعها في الوزن ، فحكموا بتخصيص العلة فانتقضت علة الوزن عندنا وعندهم لم تنتقض . قيل : قد ناقض أصله ، فإنه قال بتخصيص العلة في مسائل كثيرة ، كقوله : الواجب في إتلاف المثل المثل ، ثم خص هذا الأصل في المصراة فأوجب عليه في اللبن المستهلك صاعا من تمر . وقال بتحريم الخمر للشدة ، وقاس عليها النبيذ ، وللخمر ثلاثة أحكام : التحريم ، والتفسيق ، والحد ، فطرد علته في الشرع في الحد ، ولم يطردها في التفسيق ، فإنه لم ترد شهادة شارب النبيذ ولم يحكم بفسقه . وأيضا فإنه خص علة الربا في مسألة العرايا ، وجوز العقد من غير وجود المماثلة كيلا ، وكذلك خص ضمان الجنين بالغرة مع مخالفة سائر أجناسه ، وكذلك الدية على العاقلة في سائر المواضع . الشافعي
وأجاب بأنا لا ننكر وجود مواضع في الشرع وتخصيصها بأحكام تخالف سائر أجناسها بدليل شرعي يقوم في ذلك الموضع على الخصوص كالأمثلة المذكورة ، إنما الممنوع تخصيص العلة المعنوية . وأجاب القفال عن العرايا بأن العلة في تحريم المزابنة الجهل الكثير ، وما أجيزت فيه قليل ، فتكون هذه علة مقيدة لعلة الربا مقيدة للجنس .
الثالث : أن المجوزين لتخصيص العلة تمسكوا بآيات ، منها قوله تعالى : { قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه } فإن هذه العلة التي قصدوا بها إطلاقه من يد العزيز هي موجودة في كل واحد منهم . وأجيب بأنه لم يكن في ذهنهم أن العزيز يعرف أخوتهم الذي أخذوا الاحتراز من محل النقض إنما هو لدفع المعترض [ ص: 178 ] بحيث لا يعترض إلا بحسب الاحتراز عنه لفظا ، وتكفي إرادته . فالعلة أن له أبا شيخا كبيرا وأنه صغير يصدر عليه من الحزن ما لا يصدر على أحد ، فحذف هذا القيد مع إضماره ، وإن في حذفه لفائدة جليلة ، إذ لم يكن لهم قصد في التعريف بأخوتهم له ، ولو صرحوا له بذكر هذا القيد لفهم أخوتهم له . فتأمل هذا ما أحسنه . ومنه قوله تعالى { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ، ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } الآية . دل النص على أن العلة هي تبين أنهم من أصحاب الجحيم ، ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم بالوعد ، فدل على جواز تخصيص العلة . واحتج بعضهم على الامتناع بقوله تعالى : { آلذكرين حرم أم الأنثيين } فإنه طالب الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة لأوجه لا تدفع لهم ، لأنهم إذا أثبتوا أحد هذه المعاني أن الحرمة لأجله انتقض بإقرارهم بالجواز في الموضع الآخر مع وجود ذلك المعنى فيه ، ولو كان التخصيص في علل الأحكام الشرعية جائزا لما كانوا محجوجين فإنه لا يعز أن يقال امتنع ثبوته هناك لمانع .
الرابع : مثل جماعة من الأئمة لتخصيص العلة بمسألة العرايا ، وإنما يصح ذلك إن قلنا : إن تحريم المزابنة وارد أولا واستقر ، ثم وردت رخصة العرايا . فإن قلنا : إن النهي لم يتوجه إلى خصوص العرايا ، وأنه أراد بالمزابنة ما سواها من باب إطلاق العام وإرادة الخاص فلا . وهذان الاحتمالان نص عليهما في " الأم " ونقلهما الشافعي في سننه " عن البيهقي الربيع عنه ، ونقل عن أنه قال : أولى الاحتمالين عندي الثاني : وقد يقال : ترجيح الثاني يقتضي منع كون العرايا رخصة . [ ص: 179 ] الشافعي
الخامس : أن إلكيا الطبري قسم المسألة إلى قسمين : أحدهما : بحسب المناظرة والآخر : المجتهد .
فأما المناظرة إذا توجه إليها النقض فهل له أن يقول ثم لم أحكم بمثل ما حكمت به هاهنا لمانع ويتكلف عذرا ، أم لا يقبل ذلك من حيث إنه يناقض كلامه فلزمه أن يسكت ؟ فيه خلاف . وأما المجتهد فيتبع العلة المطردة في محالها ثم حكى الخلاف السابق .
السادس : أن المانعين تعلقوا بأن التخصيص يؤدي إلى تكافؤ الأدلة على معنى أنه يجعل المعنى الذي تعلق به المعلل علة في ضد ذلك الحكم ويجريه في كل موضع إلا ما قام دليله ، لأن نفس هذا المعنى تعلق عليه حكمان مختلفان جعل المعلل ما خالف حكمه مخصوصا ، وما وافقه تعميما . فما الفرق بينه وبين من جعل " ما جعله أصلا " مخصوصا وما " جعله مخصوصا " أصلا . مثاله أن يقول المعلل : طهارة تفتقر إلى النية قياسا على التيمم ، فيقال : باطل بإزالة النجاسة ، فيقول : إنها مخصوصة ، فتقلب عليه فتقول : طهارة تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة ليقال : باطل بالتيمم فيقول : ذلك مخصوص فلا يكون أحدهما أولى من الآخر .
قال الطبري : وهذا فيه نظر ، فإن العلة إذا كانت دالة على الحكم بإخالتها وتأثيرها في محل النص ففيما عداه لا يكون دلالتها من ناحية الاطراد فقط لكن من ناحية التأثير والإخالة ، ولا يتصور تناقض شهادتهما حينئذ . أما إذا كانت الدلالة تتلقى من الاطراد المحض فيتجه ادعاء التكافؤ في بعض الصور إن صح القول بالطرد ، قال الأستاذ أبو إسحاق : تقول لمن خص العلة بما استنبط : عام أو خاص ؟ إن ادعيت عمومه واستغراقه بطلت الدعوى بالمناقضة لا محالة ، وإن لم تدع عمومه وقلت : إنها علة في محل دون محل فلعلها علة في الأصل المقيس عليه دون الفرع . ثم قال إلكيا : من اشترط الاطراد ومنع التخصيص فإنما يشترط اطراد كل علة في فروع معلولاتها لا [ ص: 180 ] في فروع معلومات غيرها ، وهذا لا نزاع فيه ، وإنما النزاع في علة جزئية لا تطرد في فروع معلولاتها ، فلا يغلب على الظن كونها علة .
السابع : أنه سبق في باب العموم تقسيم اللفظ إلى ما قصد فيه العموم نصا وإلى ما لا يقصد فيه . قال إمام الحرمين في " البرهان " في " باب الترجيح " : ما ذكره الأصحاب من أن علة الشارع عليه السلام لا تنقض ، محمول على ما قصد فيه العموم نصا ، أما ما لم يقصد فيه ذلك بل قصد تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي يتطرق إليه التخصيص .