الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      ومنها : منع الإمام الرازي من التعليل بمجرد الاسم ، كما لو عللنا كون النقدين ربويين بكون اسمهما ذهبا أو فضة وحكى فيه الاتفاق ، واعترض النقشواني بأن العلة إذا فسرت بالمعرف ، فما المانع من جعل الاسم علة ؟ فإن فيه تعريفا ، وقواه القرافي بما إذا قلنا : إن مجرد الطرد كاف في العلة ، ويصعب مع اشتراط المناسب . وما ادعى الإمام فيه من الاتفاق تبعه فيه الهندي في النهاية .

                                                      وليس كما ادعوا ، ففي المسألة مذاهب ، وهي وجوه لأصحابنا :

                                                      أحدها : الجواز مطلقا وهو رأي الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، ونقله ابن الصباغ وابن برهان عن أصحابنا ، ونقله سليم الرازي في التقريب عن الأكثرين من العلماء قالوا : وسواء في ذلك المشتق كقاتل وسارق ، والاسم الذي هو لقب كحمار وفرس ، قال الشافعي رحمه الله تعالى ، في بول ما يؤكل لحمه : لأنه بول فشابه بول الآدمي ( انتهى ) وقال أبو الحسن السهيلي : إنه الأقرب إلى نص الشافعي وقال الأستاذ أبو منصور : إنه قول أكثر القائسين . وكذلك قال أصحابنا : لا يجوز بيع الكلب لأنه كلب ، قياسا على الكلب الذي ليس بمعلم . وقال الشافعي : في المنع من ضم القطنية بعضها إلى بعض في الزكوات : إنها حبوب منفردة بأسماء مخصوصة . وقاسها على التمر والزبيب ، فإذا جعل افتراقها في الاسم علة [ ص: 207 ] لافتراقها في الحكم لم يمتنع أن يكون اتفاقها في الاسم علة ، لاتفاقها في الحكم ، وقال أهل الرأي في المنع من التكرار في مسح الرأس : إنه مسح كالمسح على الخفين . وقال أصحاب مالك في زكاة العوامل : إنها تعم قياسا على السائمة ( انتهى ) ونقله الباجي عن أكثر المالكية .

                                                      و ( الثاني ) المنع لقبا ومشتقا . و ( الثالث ) التفصيل بين المشتق فيجوز ، وبين اللقب فلا ، حكاهما الشيخ أبو إسحاق في التبصرة وابن الصباغ في العدة وسليم الرازي في التقريب . وهذا الثالث هو ظاهر قول أصحابنا في باب الربا في أن العلة في الربوي الطعم : الحكم متى علق باسم مشتق من معنى يصير موضع الاشتقاق علة . وحكى ابن برهان وجها أنه إنما يكون بشرط الإخالة والمناسبة ، ونسبه للحنفية . وهذا يقتضي ( مذهبا رابعا ) وهو التفصيل في المشتق . ونحوه قول القاضي عبد الوهاب في الملخص " : إن كان الاسم يفيد معنى في المسمى جاز التعليل به ، وإن كان لقبا ففي جواز التعليل به قولان . وقال السهيلي في أدب الجدل : إن كان الوصف اسما مشتقا فلا شك في جريان القياس به ، وإن كان اسم جنس ، كبغل وحمار ودابة ودار ، ففيه وجهان ( أحدهما ) وهو الأقرب إلى نص الشافعي الجواز . و ( الثاني ) المنع كالوصف من اسم ولقب كزيد وعمرو . وفي الأم : في بول الحيوان تعليق حكم باسم ( قال ) : والدليل على جواز التعليل أنه لو ورد الشرع به لكان جائزا ، فإذا استنبطه المعلل فكذلك ( انتهى ) وهذا يقتضي تخصيص الخلاف بالعلة المستنبطة . أما المنصوصة من الشارع فلا خلاف في جوازها ، وبه صرح ابن برهان في الوجيز . وقال الماوردي في بيوع الحاوي : يصح التعليل بالاسم المشتق ، كعاقل وقاتل ووارث ، وبالاسم إذا عبر به عن الجنس ، كما جاز التعليل بالصفة ، فيجوز أن تقول في نجاسة بول ما يؤكل لحمه : لأنه بول فوجب أن يكون نجسا قياسا على بول الآدمي . [ ص: 208 ] وقال في القواطع : وأما جعل الاسم علة للحكم فقد قال الأصحاب : إن الاسم ضربان : اسم اشتقاق ، واسم لقب . فأما المشتق فضربان :

                                                      ( أحدهما ) ما اشتق من فعل كالضارب والقاتل ، اشتق من الضرب والقتل ، فيجوز جعله علة في قياس المعنى ، لأن الأفعال يجوز أن تكون عللا للأحكام .

                                                      و ( ثانيهما ) ما اشتق من صفة كالأبيض والأسود ، مشتق من السواد والبياض ، فهذا من باب الشبه الصوري . فمن جعله حجة جوز التعليل . وقد قال عليه السلام : { فاقتلوا منها كل أسود بهيم } فجعل السواد علة لإباحة القتل ، فأما اللقب فضربان :

                                                      ( أحدهما ) مستعار كزيد وعمرو فلا يدخله حقيقة ولا مجاز ، لأنه قد ينقل اسم زيد إلى عمرو وعمرو إلى زيد ، فلا يجوز التعليل بهذا الاسم لعدم لزومه وجواز انتقاله . و ( ثانيهما ) لازم كالرجل والمرأة والبعير والفرس . وقد حكى الأصحاب في جواز التعليل بها وجهين والصحيح عندي امتناع التعليل بالأسامي مطلقا ، لأنها تشبه الطرد . وأما الأسامي المشتقة فالتعليل بموضع الاشتقاق لا بنفس الاسم ( انتهى ) وهو تفصيل لا مزيد على حسنه . فإن قلت : فهل للإمام سلف في دعواه الاتفاق ؟ قلت : رأيت في كتاب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ما نصه : اتفقوا على فساد العلة إذا اقتصرت بها على الاسم ، وإن كان بعضهم إذا ضاق عليه الأمر تعلق به ، [ ص: 209 ] كالرجل يسأل عن بيع الكلب فيقال : لأنه كلب قياسا على ما لا نفع فيه ، أو على القصور ، وليس ذلك خلافا بعد . هذا لفظه مع أنه قبل ذلك بقليل حكى وجهين في التعليل بالاسم . فإن قلت : فما تحمل كلام الإمام ، على المشتق أو اللقب ؟ قلت : أحمله على اللقب ، لأنه نص في غير موضع أنه إذا علق الحكم بالاسم المشتق كان معللا بما منه الاشتقاق ، فتعين أن يكون هنا مراده الاسم الذي ليس بمشتق . نعم الخلاف جار وإن لم يكن مشتقا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية