إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء : سأل الحواريون المائدة; ليزدادوا تثبيتا في أمر وقوله: عيسى عليه السلام.
ومعنى هل يستطيع ربك : هل يفعل ذلك؟ [فهو مجاز، كما تقول: هل تستطيع أن تزورني؟» وأنت عالم أنه يستطيع ذلك]، والعرب تقول: (ما أستطيع ذلك); أي: ما أنا فاعله.
وقيل: قالوا ذلك قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل في ابتداء أمرهم؟ ولذلك قال لهم عيسى: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين .
المعنى: هل يطيعك ربك إن سألته؟ فـ (يستطيع) على هذا بمعنى:يطيع. السدي:
[ ص: 530 ] ومن قرأ: (هل تستطيع ربك); فمعناه: هل تستطيع سؤال ربك؟ فحذف المضاف.
وقوله: وتطمئن قلوبنا أي: تطمئن بأن الله قد قبل صومنا، ورضي عملنا، أو يكون قولهم ذلك في ابتداء استدلالهم، على ما قدمناه.
ونكون عليها من الشاهدين أي: نشهد بنزولها بدعوتك، ونعلم أنها من أعلام نبؤتك.
ومعنى تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا أي: يكون ذلك اليوم الذي تنزل فيه عيدا، قاله السدي، وغيرهما، وقيل: المعنى: تكون عائدة فضل علينا. وقتادة،
وآية منك أي: علامة منك.
وقوله: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين يعني: عالمي زمانهم.
قال هو مسخهم قردة، وقيل: هو عذاب الآخرة. قتادة:
قال نزلت المائدة مرارا، وعنه أيضا: نزلت مرتين، وعلى أنها نزلت جميع المفسرين، سوى ابن عباس: مجاهد، والحسن; فإنهما قالا: لم تنزل; لأنهم لما [ ص: 531 ] سمعوا الوعيد استعفوا من نزولها، قال هو مثل ضربه الله عز وجل. مجاهد:
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: عمار بن ياسر "أن المائدة كان عليها خبز ولحم، وأنهم أمروا ألا يخونوا، ولا يدخروا منها; فخانوا، وادخروا; فمسخوا قردة وخنازير».
أنزل عليها كل شيء غير اللحم، ابن عباس: كان عليها قرصة من شعير، وأحوات. ابن عباس:
وقيل: كان عليها سبعة أرغفة، وسمكة مشوية، لا قشور عليها، ولا شوك لها، حولها بقل وخل، وزيتون وتمر، وحب رمان.
وروي: أن عيسى نادى السمكة; فحييت، وأن المائدة كانت لا تنقص إذا أكل منها، وأنها كانت لا يأكل منها ذو عاهة إلا شفي، وروي: أنها نزلت أربعين يوما، تنزل يوما، ولا تنزل يوما.
وروي: أن عيسى عليه السلام سئل عن طعام المائدة; أهو من طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس من طعام الدنيا، ولا من طعام الآخرة، لكنها [ ص: 532 ] نزلت ولا شيء عليها، فابتدع الله ذلك الطعام عليها بقدرته.
واشتقاق (المائدة): من ماد القوم يميدهم; إذا أطعمهم; فهي فاعلة، وقال هي فاعلة بمعنى: مفعولة، قال: وهي من العطاء، و (الممتاد): المفتعل); وهو المطلوب منه العطاء. أبو عبيدة:
هي فاعلة من ماد يميد; إذا تحرك. الزجاج:
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله : المعنى: أنه يقول ذلك يوم القيامة، عن ابن جريج، وغيرهما. وقتادة،
قال له ذلك حين رفع إلى السماء. السدي:
ومعنى سؤال الله تعالى عيسى عن ذلك: التوبيخ والتقرير لمن ادعى ذلك عليه.
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ; أي: تعلم غيبي، ولا أعلم غيبك.
[ ص: 533 ] فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم : القول فيه كالقول في: (إني متوفيك) [آل عمران: 55]، وقد تقدم، وتقدم القول في (الرقيب).
إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية.
قيل: إنه قال ذلك في الآخرة على وجه التسليم إلى الله عز وجل، وهو يعلم أن الله لا يغفر لكافر.
وقيل: إنما قال ذلك; لأنه لم يعلم أنهم كفروا بعده، وإنما أراد: إن تعذبهم على المعاصي، أو تغفرها لهم.
وقيل: الهاء والميم في (إن تعذبهم) لمن مات منهم على الكفر، والهاء والميم في (تغفر لهم) لمن تاب منهم قبل الموت.
وقيل: إن ذلك مردود إلى قوله: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ; أي: الذي قلت لهم: إن تعذبهم فإنهم عبادك.
وقيل: إنما كان هذا القول من عيسى في الدنيا حين قال الله تعالى: فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين .
ومن قال: إن قوله أأنت قلت للناس كان حين ترفع إلى السماء; فكذلك [ ص: 534 ] يقول: إن قوله: إن تعذبهم فإنهم عبادك كان حينئذ; فكأنه أخبره حين رفع أن أمته قالت ذلك من بعده، فقال عيسى: إن تعذبهم فإنهم عبادك ; أي: إن تمتهم على كفرهم; فتعذبهم، وإن تغفر لهم ; أي: وإن تبت عليهم قبل الموت.
ومعنى العزيز الحكيم في هذا الموضع: الذي لا يمتنع عليه ما يريده، (الحكيم): فيما يفعله.
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم أي: صدقهم في الدنيا; فأما في الآخرة; فلا ينفعهم فيها الصدق، وصدقهم في الدنيا: يحتمل أن يكون صدقهم في العمل لله عز وجل، ويحتمل أن يكون تركهم الكذب عليه وعلى رسله.
لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير : جاء هذا بإثر ما جرى من دعوى النصارى في عيسى; فأخبر الله تعالى أن ملك السماوات والأرض له دون عيسى، ودون سائر المخلوقين، ويجوز أن يكون المعنى: أن الذي له ملك السماوات والأرض يعطي المطيعين الجنات المتقدم ذكرها.