وأما القسم الثاني وهو علم المعاملة فهو علم أحوال القلب أما ما يحمد منها فكالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي بها تكتسب وثمرتها وعلامتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى وما زال حتى يعود من علم الآخرة .
وأما ما يذم فخوف الفقر وسخط المقدور والغل والحقد والحسد والغش وطلب العلو وحب الثناء وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع والكبر والرياء والغضب والأنفة والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والرغبة والبذخ والأشر والبطر وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء والفخر والخيلاء والتنافس والمباهاة والاستكبار عن الحق والخوض فيما لا يعني والصلف والتزين للخلق والمداهنة والعجب والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس وزوال الحزن من القلب وخروج الخشية منه وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل وضعف الانتصار للحق واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى والاتكال على الطاعة والمكر والخيانة والمخادعة وطول الأمل والقسوة والفظاظة والفرح بالدنيا والأسف على فواتها والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم والجفاء والطيش والعجلة وقلة الحياء وقلة الرحمة فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة . وحب كثرة الكلام
وأضدادها وهي الأخلاق المحمودة منبع الطاعات والقربات فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة ولو سئل فقيه عن معنى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلا أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها فلا يزال يتعب فيها ليلا ونهارا وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين وإذا روجع فيه قال اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين بل قدم عليه كثيرا من فروض الكفايات فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه ثم لا نرى أحدا يشتغل به ويتهاترون على علم الفقه لا سيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء هيهات هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان