الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومما أنكروا عليه أيضا: ما أجاب به من سأله عن رجل يدخل البادية بلا زاد من قوله: هذا من فعل رجال الله، قيل له: فإن مات، قال: الدية على العاقلة.

قال المنكر: هذه فتوى جاهل بقواعد الشريعة؛ إذ لا خلاف بين فقهاء الإسلام أنه لا يجوز لأحد دخول البادية بغير زاد، وأن كل من فعل ذلك ومات بالجوع فهو عاص، مستحق للعقوبة في الآخرة .

والجواب: يحتمل أن يكون مراد الغزالي: من رجال الله، أرباب الأحوال، الذين غلبت [ ص: 36 ] عليهم أحوالهم، لا العارفين من مشايخ الطريق، بقرينة ما مر في الجواب قبله، فلا لوم على الغزالي، إلا لو جعل ذلك شائعا في حق كل الناس .

ومما أنكروا عليه أيضا تقريره عن أبي الخير الأقطع التيناتي قوله: إني عقدت مع الله عهدا أن لا آكل شيئا من الشهوات فمددت يدي إلى ثمرة في شجرة فقطعتها، فبينما أنا أمضغها إذ ذكرت العهد، فرميت بها من فمي، فدار بي فرسان، وقالوا: قم، وأخرجوني إلى ساحل بحر إسكندرية، وإذا أمير وحوله خيل وجند، فقالوا: أنت من اللصوص، وإذا معهم جماعة من لصوص السودان، فسألوهم عني، فقالوا: لا نعرفه، فكذبهم الأمير، وشرع يقدم يدا ويقطعها إلى أن وصل إلي، وقال لي: تقدم ومد يدك، فمددتها فقطعت إلى آخرها .

قال: قال المنكر: فانظروا إلى هذا الجهل العظيم ما فعل بصاحبه، ولو أن عند التيناتي رائحة علم لعلم أن ما فعله حرام عليه، وليس لإبليس عون على الزهاد والعباد أكثر من الجهل، وما أظن غالب ما يقع لهؤلاء إلا من الماليخوليات .

والجواب: لا ينبغي الإنكار على أبي الخير، ولا على الغزالي; فإنهما مجتهدان في ذلك، فرأيا أن نقض العهد عند الأكابر أعظم من سرقة ربع دينار، وأيضا فإن مشهد الأكابر حضرة التقدير الإلهي فهم مع الذي قدر القطع لا مع الجلاد الذي يقطع اليد مثلا، فكلام الغزالي في حق الأكابر وقول المنكر في حق الأصاغر فإنه كان يكفي عقوبة أحدهم أن يتوب، ويستغفر من نقض العهد، وليس له أن يمكن الجلاد من قطع يده ما أمكن؛ لأن ذلك لم يأمر به الشرع. والله أعلم .

ومما أنكروا عليه أيضا قوله: إن الاشتغال بعلم الظاهر بطالة، قال ابن القيم: هذا جهل مفرط منه، وأصل ذم الصوفية العلم أنهم رأوا طريق الاشتغال به لا يوصلهم إلى الرياسة إلا بعد طول زمان، بخلاف طريقتهم المبتدعة من لبسهم الزي، وصلاتهم بالليل، وصيامهم بالنهار، وتقصير الثياب والأكمام .

والجواب: لا ينكر عليه ذلك؛ فإن مراده الاشتغال به على طريق الجدال بطالة بالنسبة إلى طريق العلماء العاملين، لا أن مراده بطالة من كل وجه، وكيف يظن به أن يريد ما فهمه المنكر وهو يعلم أن علم الشريعة هو أساس علم الحقيقة؛ إذ الشريعة لها تقويم صور العبادات الظاهرة، والحقيقة لها تقويم صور العبادات الباطنة، بحيث تستحق أن يقبلها الله تفضلا منه، وقد بلغنا أن الغزالي ما قال ذلك إلا في حق نفسه، لما دخل طريق القوم، ورأى كمالها، وآدابها، فقال ضيعنا عمرنا في البطالة. والله أعلم .

ومما أنكروا عليه أيضا قوله: اعلم أن ميل قلوب أهل التصوف إنما هو إلى تحصيل العلوم اللدنية دون العلوم النقلية، ولذلك لم يحضوا على دراسة العلم، ولا تحصيل ما صنفه المصنفون، وإنما حضوا على الاشتغال بالله تعالى وحده، والاشتغال بذكر الله فقط، إلى آخر ما قال، وعد المنكرون ذلك من جملة ما غلط فيه الغزالي، وقالوا: قد حث الشارع على طلب العلم، فكيف يمدح من لم يحض على تحصيله من الصوفية؟! .

وقالوا: عزيز هذا الكلام أن يصدر من متشرع؛ فإنه لا يخفى قبحه، وهو كالطي لبساط الشريعة حقيقة، ثم على هذا المذهب فقد فاتت الفضائل علماء الأمصار كلهم؛ فإنهم لم يسلكوا طريق الصوفية على هذا النحو الذي ذكره الغزالي، وإذا ترك الإنسان الاشتغال بعلم الشريعة خلت النفس بوساوسها وخيالاتها، ولم يبق عندها من العلم ما يطرد ذلك، فيلعب بها إبليس أي ملعب .

والجواب: أن مراد الغزالي فيما حكاه عنهم إنما هو بعد إحكام الفقير علم الشريعة، فإنه حكى إجماع القوم على أنه لا ينبغي لأحد أن يدخل طريق القوم إلا بعد تضلعه من علوم الشريعة بحيث يصير يقطع علماء الشريعة بالحجج في مجلس المناظرة، فلا ينبغي حمل مثل كلامه على أن مراده مدح الاشتغال بأحوال طريق القوم من غير تقدم علمهم للشريعة؛ فإن ذلك أبعد من البعيد، فالغزالي في واد والمنكر في واد. والله أعلم .

ومما أنكروا عليه أيضا في تفسير قوله تعالى حكاية عن إبراهيم -عليه السلام-: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام هو الذهب والفضة، وعبادتهما حبهما والاغترار بهما.

قال ابن القيم: وهذا تفسير لم يقل به أحد من المفسرين .

والجواب: لا ينبغي أن ينكر عليه بسبب ذلك؛ فقد ورد في الحديث: "تعس عبد الدينار والدرهم، وعبد الخميصة" فسمى محب هذه الأمور عبدا لها، مع أنها لا تعقل، ولا تدري من يحبها ولا من يبغضها، فكانت كالأصنام، والعبادة في اللغة الميل للشيء والطاعة له، قال تعالى: [ ص: 37 ] يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان أي: لا تطيعوه في وسوسته لكم بالسوء، فلما كنى الحق تعالى عن طاعة إبليس بالعبادة له استعارة مجازية كذلك صح للغزالي استعارة العبادة للذهب والفضة الذي هو عبارة عن شدة محبتهما، ومقاتلة الناس لأجلهما بجامع أن القلب يشتغل بهما عن الله تعالى كما يشتغل عباد الأصنام بها عن الله تعالى. والله أعلم .

ومما أنكروه عليه: تقريره في الإحياء قول سهل التستري: إن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت النبوة، وإن للنبوة سرا لو ظهر لبطل العلم، وإن للعلماء بالله سرا لو ظهر لبطلت الأحكام والشرائع .

قال ابن القيم: انظروا إلى هذا التخليط القبيح ودعواه أن باطن الشريعة يخالف ظاهرها، وذلك من الهذيان .

والجواب: لا ينكر على سهل ولا على الغزالي; لأن ما ذكراه إنما هو على سبيل الفرض والتقدير، أي: إن لله تعالى في عباده وشرائعه أسرارا اختص بها دون خلقه لشدة حجابهم، ولو رفع ذلك الحجاب لتساوى علمهم وعلم سيدهم، ولا قائل بذلك، ومن أراد أن يشم رائحة ما ذكرناه فلينظر إلى حضرة ربه سبحانه قبل خلقه الخلق سجدا أحدا فردا لا ثاني معه يشهد أبدا، ثم يستصحب هذا المشهد وهو نازل في المراتب من غير تخلل غفلة أو حجاب، وأكثر من هذا لا يقال، وإذا لم يكن إلا واحدا لا خلق معه ذهبت الرسالة والرسول لعدم وجود من تتوجه عليهم الأحكام، فكان بقاء الرسالة وأحكامها بعدم كشف أسرار الربوبية فافهمه، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية