الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويدل على إرادته بالعلم وجه الله تعالى واستحقار للدنيا ما روي أنه قال : دخلت على هارون الرشيد فقال لي : يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ قال فقلت أعز الله مولانا الأمير إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عز وإن أنتم أذللتموه ذل والعلم يؤتى ولا يأتي فقال صدقت اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس .

التالي السابق


(ويدل على إرادته بالعلم وجه الله واستحقاره للدنيا ما روي عنه أنه قال: دخلت على هارون الرشيد) حين جاء إليه يحيى بن خالد يطلبه (فقال لي: يا أبا عبد الله) وهي كنية مالك والشافعي وأحمد وسفيان (ينبغي أن تختلف إلينا) أن تتردد (حتى يستمع صبياننا منك الموطأ قال قلت) له (أعز الله الأمير هذا العلم منكم خرج) يعني قريشا (فإن أنتم أعززتموه عز) أي صار عزيزا (وإن أذللتموه ذل) صار ذليلا (والعلم يؤتى) إليه لرفعة قدره (ولا يأتي) وفي المدارك للقاضي عياض أنه قال لهارون أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون، ومنكم خرج العلم وأنتم أولى الناس بإعظامه ومن أعظامكم له أن لا تدعوا حملته إلى أبوابكم، وقال السخاوي في المقاصد العلم يسعى إليه هو من قول مالك ويروى العلم أولى أن يوقروه ويؤتى إليه قاله للمهدي حين استدعى به لوالديه ليسمعا منه ويروى بلفظ العلم يزار ولا يزور ويؤتى ولا يأتي. اهـ .

وقرأت في أمالي الحافظ ولي الدين أبي زرعة بن العراقي، قال أنشدنا أبو الحرم القلانسي حضورا في الثالثة وإجازة أنشدنا أبو المعالي الأبرقوهي حضورا في الرابعة وإجازة أنبأنا أبو عبد الله محمد بن ظفر اليزدي لنفسه:

ارع الحديث وعظم أهله أبدا واعلم بأن لهم فيه ولايات إن كنت تطلبه قم فأت صاحبه
فالعلم يا سيدي يؤتى ولا يات

(فقال صدقت) ثم قال للصبيان (اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس) وهذه القصة أوردها ابن عساكر بسياق آخر فقال أخبرنا أبو الحسن المالكي أخبرنا أبو العباس الفقيه أخبرنا عبد [ ص: 208 ] الوهاب أخبرنا أبو يعلى عبد العزيز الحراني، أخبرنا أبو بكر بن هارون أخبرنا إبراهيم بن نصر النهاوندي أخبرنا عتيق بن يعقوب الزبيري قال قدم هارون الرشيد المدينة وكان قد بلغه أن مالك بن أنس عنده الموطأ يقرؤه على الناس فوجه إليه البرمكي فقال: أقرئه السلام وقل له: احمل إلي الكتاب فتقرأه علي، فأتاه البرمكي فقال له مالك: أقرئه السلام وقل له: إن العلم يؤتى لا يأتي، فأتاه البرمكي فأخبره وكان عنده أبو يوسف القاضي فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني الزهري عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: كنت أكتب الوحي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : لا يستوي القاعدون من المؤمنين وابن أم مكتوم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير وقد أنزل الله عليك في فضل الجهاد، ما علمت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا أدري وقلمي رطب فما جف حتى وقع فخذ النبي -صلى الله عليه وسلم-، على فخذي ثم أغمي عليه ثم جلس، فقال: يا زيد اكتب: غير أولي الضرر ويا أمير المؤمنين حرف واحد بعث فيه جبريل والملائكة عليهم السلام من مسيرة خمسين ألف عام ألا ينبغي له أن تعزه وتجله، وإن الله تعالى رفعك وجعلك في هذا الموضع بعلمك فلا تكن أنت أول من يضيع عز العلم فيضيع الله عزك، فقام الرشيد يمشي مع مالك إلى منزله فسمع منه الموطأ، وأجلسه معه على المنصة فلما أراد أن يقرأه على مالك، قال: تقرأه علي! قال ما قرأه علي أحد منذ أزمان قال: فيخرج الناس عني حتى أقرأه أنا عليك، فقال إن العلم إذا منع عن العامة لأجل الخاصة لم ينفع الله به الخاصة، فأمر له معن بن عيسى الغزالي ليقرأه عليه، فلما بدأ ليقرأه قال مالك لهارون: يا أمير المؤمنين أدركت أهل العلم ببلدنا وإنهم ليحبون التواضع للعلم، فنزل هارون عن المنصة فجلس بين يديه .




الخدمات العلمية