الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومثال الجاني على الدين بإبداع ما يخالف السنة بالنسبة إلى من يذنب ذنبا مثال من عصى الملك في قلب دولته بالنسبة إلى من خالف أمره في خدمة معينة وذلك قد يغفر له فأما في ، قلب الدولة فلا .

وقال بعض العلماء : ما تكلم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء ، وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف .

وقال غيره : الحق ثقيل من جاوزه ظلم ، ومن قصر عنه عجز ، ومن وقف معه اكتفى .

وقال صلى الله عليه وسلم : عليكم بالنمط الأوسط ، الذي يرجع إليه العالي ويرتفع إليه التالي وقال ابن عباس رضي الله عنهما الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها ، قال الله تعالى: وذر الذين : اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، وقال تعالى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فكل ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم مما جاوز قدر الضرورة والحاجة فهو من اللعب واللهو .

وحكي عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم فرجعوا إليه محسورين فقال : ما شأنكم قالوا ؟ : ما رأينا مثل هؤلاء ما نصيب منهم شيئا وقد أتعبونا فقال إنكم لا تقدرون عليهم قد صحبوا نبيهم وشهدوا تنزيل ربهم ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم .

فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسين فقالوا ما رأينا أعجب من هؤلاء نصبب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب ، فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار فيبدل الله سيئاتهم حسنات ، فقال : إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئا لصحة توحيدهم ، واتباعهم لسنة نبيهم ، ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم ، تلعبون بهم لعبا ، وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم ، إن استغفروا لم يغفر لهم ، ولا يتوبون فيبدل الله ، سيئاتهم حسنات ، قال : فجاء قوم بعد القرن الأول فبث فيهم الأهواء وزين لهم البدع فاستحلوها واتخذوها دينا لا يستغفرون الله منها ، ولا يتوبون عنها فسلط عليهم الأعداء وقادوهم أين شاءوا .

التالي السابق


(ومثال الجاني على الدين بإبداع) ، أي إحداث (ما يخالف السنة) الماضية (بالنسبة إلى من يذنب ذنبا مثال) ولفظ القوت: ومثل من ابتدع في الأمة مخالفا لطريق الأئمة إلى من أساء بالذنوب إلى نفسه، مثل، (من عصى الملك في قلب دولته) وتظاهر عليه في ملكه بالإزالة (بالنسبة إلى من) ولفظ القوت: إلى جنب من (خالف أمره في خدمة معينة) ولفظ القوت: من عصا أمره، وقصر في حقه من الرعية، (وذلك قد يعفو، وأما قلب الدولة فلا) وقد قال الحكماء: ثلاث من الملك لا يحسن أن يغفرها من قلب دولة من رعيته أو عمل فيما يوهن الملك، أو أفسد حرمة من حرمه .

(وقال بعض العلماء: ما تكلم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء، وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف) ، هكذا أورده صاحب القوت، والتكلف أن يتأول السنن بالرأي والمعقول، أو ينطق بما لم يسبق إليه السلف من القول، أو بمعناه، (وقال آخر: الحق ثقيل من جاوزه ظلم، ومن قصر عنه عجز، ومن وقف معه اكتفى) ، هكذا أورده صاحب القوت، والمراد بالوقوف معه أن يدور معه حيث دار، ولا يتعدى عن حدوده فيفرط ولا يقصر عن قبوله فيفرط (وقال صلى الله عليه وسلم: عليكم بالنمط الأوسط، الذي يرجع إليه العالي ويرتفع إليه التالي) .

قال العراقي: لم أجده مرفوعا، وإنما هو موقوف على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رواه أبو عبيد في غريب الحديث، بلفظ: خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم، التالي ويرجع إليهم الغالي، ورجال إسناده ثقات إلا أن فيه انقطاعا اهـ .

قلت: والمصنف أخذه من القوت، ولفظه: وقال علي كرم الله وجهه، فساقه، وأورده الجوهري في الصحاح، فقال: وفي الحديث، فساقه كسياق أبي عبيد، وقد جاء في حديث مرفوعا: خير الناس هذا النمط الأوسط، وقد ذكرته في شرح القاموس، وأخرج أبو نعيم في الحلية، من رواية إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد سمعت وهبا، يقول: إن لكل شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسكت بأحد الطرفين، مال الآخر، وإذا أمسكت بالوسط اعتدل الطرفان، ثم قال: عليكم بالأوسط من الأشياء اهـ .

والنمط الطريقة يقال: الزم هذا النمط، أي هذا الطريق، والغالي إن كان بالغين المعجمة، فمن الغلو، وهو التجاوز والإفراط، وإن كان بالعين المهملة، فمن العلو بمعنى ارتفاع الشأن والتالي من تلاه، وقال أبو عبيد: معنى قول علي: إنه الغلو والتقصير في الدين، إذا تبعه، (وقال ابن عباس) رضي الله عنهما، (إن الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها، قال الله تعالى: اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، وقال تعالى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) هكذا أورده صاحب القوت، بلفظ: إن للضلالة حلاوة، وزاد في آخره: كما قال الله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه فالعلم رحمك الله هو الذي كان عليه السلف الصالح المقتفي آثارهم والخلف التابع المقتدي بهديهم وهم الصحابة أهل السكينة والرضا ثم التابعون لهم بإحسان من أهل الزهد، والنهي، والعالم هو الذي يدعو الناس إلى مثل حاله، حتى يكونوا مثله، فإذا نظروا إليه زهدوا في الدنيا لزهده فيها، (فكل ما أحدث) وابتدع (بعد) عصر (الصحابة) والتابعين لهم بإحسان، (مما جاوز قدر الضرورة والحاجة فهو من اللهو واللعب) داخل في منطوق الآية الكريمة، (وحكي عن إبليس لعنه الله تعالى أنه بث جنوده) أي نشر أعوانه، (في وقت الصحابة) رضوان الله عليهم ليغووهم، (فرجعوا إليه محسورين) ممنوعين لم يقدروا على فعل شيء من الإغواء ولفظ القوت: محصورين بالصاد المهملة، (فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء) القوم (ما نصيب منهم شيئا وقد أتعبونا فقال) إبليس: (إنكم لا تقدرون عليهم) إنهم (قد صحبوا نبيهم وشهدوا تنزل الوحي) ، ولفظ القوت: تنزيل ربهم (ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم فلما جاء التابعون) [ ص: 445 ] أي عصرهم، (بث جنوده) فيهم، (فرجعوا إليه) منكسرين (منكسين) ، ولفظ القوت: منكوسين، (فقالوا) ولفظ القوت: فقال: ما شأنكم؟ قالوا: (ما رأينا أعجب من هؤلاء) القوم، (نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب، فإذا كان) من (آخر النهار أخذوا في الاستغفار فتبدل سيئاتهم حسنات، فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئا لصحة توحيدهم، واتباعهم سنة نبيهم، ولكن سيأتي بعدهم قوم تقر أعينكم بهم، تلعبون بهم لعبا، وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم، إن استغفروا لم يغفر لهم، ولا يتوبون، فتبدل سيئاتهم حسنات، قال: فجاء قوم بعد القرون الأول) كذا لفظ القوت، وفي بعض النسخ: بعد القرن الأول .

(فبث فيهم الأهواء) وحسنها لهم، (وزين لهم فاستحلوها) بتشديد اللام، وبتخفيفها، (واتخذوها) أي تلك البدع (دينا) وطريقة (لا يستغفرون منها، ولا يتوبون) إلى الله تعالى (عنها) قال: (فسلط) كذا في النسخ، ولفظ القوت: فتسلط (عليهم الأعداء وقادتهم أين شاءوا) هكذا ساق هذه الحكاية بطولها صاحب القوت، وهي دالة على أن الأحداث والابتداع في الدين ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار غير ما ساقها المصنف، مما هو في الحلية لأبي نعيم والقوت لأبي طالب، والسنة للكائي، وغيرها، ولو استوفينا الكل أطال علينا الكتاب، وامتلأ الوطاب، ولكن اقتصرنا على تبيين ما أورده المصنف فقط .




الخدمات العلمية