الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فلقد كان أيضا عابدا زاهدا بالله تعالى خائفا منه مريدا وجه الله تعالى بعلمه فأما كونه عابدا فيعرف بما روي عن ابن المبارك أنه قال : كان أبو حنيفة رحمه الله له مروءة وكثرة صلاة .

وروى حماد بن أبي سليمان أنه كان يحيي الليل كله .

وروي أنه كان يحيي نصف الليل فمر يوما في طريق فأشار إليه إنسان وهو يمشي فقال لآخر هذا هو الذي يحيي الليل كله فلم يزل بعد ذلك يحيي الليل كله وقال أنا أستحي من الله سبحانه أن أوصف بما ليس في من عبادته .

التالي السابق


(وأما أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فلقد كان أيضا عابدا) لله تعالى (زاهدا) للدنيا (عارفا بالله تعالى خائفا منه مريدا وجه الله بعلمه) هو الإمام الأعظم والمجتهد الأفخم النعمان بن ثابت بن زوطى كسكرى بن ماه الكوفي الفقيه مولى بني تيم الله بن ثعلبة على قول، وقيل: يتصل نسبه إلى كسرى، أحد الأئمة الأربعة قال أبو نعيم الفضل بن دكين ولد أبو حنيفة سنة ثمانين ورأى أنس بن مالك غير مرة بالكوفة، قاله ابن سعد في الطبقات وروى عن عطاء بن أبي رباح، قال: ما رأيت أفضل منه، وعن عطية العوفي ونافع وسلمة بن كهيل، ومحمد الباقر وولده جعفر وعدي بن ثابت وقتادة، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعمرو بن دينار ومنصور بن المعتمر وأبي الزبير وحماد بن أبي سليمان وربيعة بن أبي عبد الرحمن وشعبة بن الحجاج، والأوزاعي وعاصم بن أبي النجود وغيرهم، ينيفون على أربعة آلاف على اختلاف طبقاتهم، وأما الرواة عنه فلا ينحصرون وفيهم من هو من رجال الستة وقد أوردهم البدر العيني وقاسم بن قطلوبغا على حروف المعجم منهم الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن ويعرفان بالصاحبين والحسن بن زياد اللؤلؤي وزفر بن الهذيل وابنه حماد بن أبي حنيفة، وحفص بن غياث وجرير بن حازم، وحماد بن زيد بن درهم، وخارجة بن مصعب وإبراهيم بن أدهم الزاهد، وشقيق بن إبراهيم البلخي الزاهد، وداود بن ناصر الطائي الزاهد وفضيل بن عياض الزاهد، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك المروزي، وأبو عاصم النبيل والقاسم بن معن، وقتادة وهاشم بن القاسم والوليد بن مسلم ويحيى بن اليمان ويزيد بن زريع، وأبو أحمد الزبيري، وأبو أسامة حماد بن أسامة وأبو معاوية الضرير ونوح بن أبي مريم المروزي وأبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وأسد بن عمرو ومغيرة بن مقسم ومسعر وسفيان، وزائدة وشريط والحسن بن صالح بن حي وعلي بن مسعر ووكيع وإسحاق الأزرق، وسعد بن الصلت، وعبد الرزاق وعبيد الله بن موسى وهوذة بن خليفة وجعفر بن عوف وأبو عبد الرحمن المقري وغيرهم، وقد روى عنه الإمام مالك أيضا كما ذكره السيوطي وابن حجر المكي قال محمد بن عمر الواقدي مات أبو حنيفة في شعبان سنة خمسين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور -رضي الله عنه- وعمن أحبه، (فأما كونه عابدا فيعرف بما روي عن) عبد الله (ابن المبارك) ابن واضح الحنظلي مولاهم [ ص: 209 ] سلطان المحدثين أبو عبد الرحمن المروزي رحل إلى اليمن، ومصر والشام والبصرة والكوفة، كان من رواة العلم وأهل ذلك، كتب عن الصغار والكبار، قال شعبة: ما قدم علينا مثله، وقال سفيان بن عيينة لما نعي إليه ابن المبارك: رحمه الله، لقد كان فقيها عالما عابدا زاهدا سخيا شجاعا شاعرا وصنف كتبا كثيرة في فنون العلم حملها عنه قوم وكتبها الناس عنهم توفي سنة 181 عن ثلاث وستين وقيل غير ذلك وكان في عداد طبقات تلامذة الإمام أبي حنيفة لازمه واستملى عنه فوائد ونقل قاسم بن قطلوبغا الحافظ عن البدر العيني أن ابن المبارك، روى عن الإمام حكاية فإن كان المراد منه أنه روى عنه حكاية بعينها فالأمر سهل وإلا فظاهر سياقه دال على أنه لم يرو عنه سوى هذه، كيف؟ وقد أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه، أخبرني أبو بشر الوكيل وأبو الفتح الضبي قالا: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ حدثنا أحمد بن محمد عن عصمة الخراساني، حدثنا أحمد بن بسطام، حدثنا الفضل بن عبد الجبار، سمعت أبا عثمان حمدون ابن أبي الطوسي سمعت عبد الله بن المبارك، يقول: قدمت الشام على الأوزاعي فقال لي: يا خراساني من هذا الذي خرج بالكوفة، يعني أبا حنيفة فرجعت إلى بيتي فأقبلت على كتب أبي حنيفة فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل وبقيت في ذلك ثلاثة أيام فجئته يوم الثالث، وهو مؤذن مسجدهم وإمامهم والكتاب في يدي فقال: أي شيء هذا الكتاب فناولته فنظر في مسألة منه، وقف عليها قال النعمان بن ثابت: فما زال قائما بعد ما أذن حتى قرأ صدرا من الكتاب ثم وضع الكتاب في كمه ثم أقام وصلى ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليه فقال لي: يا خراساني من النعمان بن ثابت هذا قلت شيخ لقيته بالعراق، فقال: هذا نبل من المشايخ اذهب فاستكثر منه فقلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه. اهـ .

فقوله فأقبلت على كتب أبي حنيفة أي: الفوائد التي تلقاها عنه في حال ملازمته له؛ لأنه لم يكن إذ ذاك كتاب خاص مؤلف في المسائل التي اجتهد فيها، وإنما حدثت الكتب بعد وفاته على أن عندي في سياق الخطيب نوع توقف، فإن الأوزاعي معدود من جملة مشايخه وهو من أقرانه ولد بعد الإمام بسبع سنين ومات بعده بسبع سنين، فإذا كان كذلك كيف يعقل منه من هذا الذي بالكوفة، وكيف يخفى عليه اسمه، إذ قال لابن المبارك من النعمان بن ثابت هذا ولم يكن إذ ذاك من يقال له ابن ثابت غير الإمام أبي حنيفة فتأمل ذلك .

وفي تاريخ الذهبي قال حبان بن موسى سئل ابن المبارك أمالك أفقه أم أبو حنيفة قال أبو حنيفة: (قال: كان أبو حنيفة له مروءة) وهي قوة للنفس هي مبدأ لصدور الأفعال الجميلة منها المستتبعة للمدح شرعا وعقلا وعرفا (وكثرة صلاة) أي بالليل لما سيأتي أنه كان يحيي الليل كله أو نصفه وروى عن شريك قال: كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته (وروى) أبو إسماعيل (حماد بن سليمان) واسمه مسلم الأشعري الكوفي الفقيه مولى أبي موسى الأشعري روى عن إبراهيم النخعي وأنس بن مالك وابن المسيب وعنه إسماعيل وابن أبي خليفة ومسعر وشعبة إمام مجتهد كريم جواد، قال مغيرة: قلت لإبراهيم: إن حمادا قعد يفتي فقال وما يمنعه وقد سألني هو وحده عما لم تسألوني كلكم عن عشره. اهـ .

وعن أبي إسحاق الشيباني قال: ما رأيت أحدا أفقه منه قبل ولا الشعبي قال: ولا الشعبي وقال شعبة: كان صدوق اللسان، وقال أبو حاتم: صدوق لا يحتج بحديثه وهو مستقيم في الفقه، فإذا جاء الأثر تشوش، وقال العجلي والنسائي هو ثقة مات سنة عشرين ومائة، وقال البخاري في الصحيح، وقال حماد إذا أقر مرة عند الحاكم زجر يعني الزاني، وروى له مسلم مقرونا بغيره والباقون، ذكره ابن أبي العوام السعدي في مسنده فيمن روى عن أبي حنيفة قلت: وقد ذكر أيضا في شيوخه كما تقدم (أنه كان يحيي الليل كله) وذلك في أواخر عمره (وروي) عن غيره (أنه كان يحيي نصف الليل) أولا (فمر في طريق) من طرق الكوفة (فسمع إنسانا يقول) وروي فأشار إليه إنسان وهو يمشي (هذا الذي يحيي الليل كله فلم يزل) أبو حنيفة (بعد ذلك يحيي كل الليل) وفي نسخة: الليل كله (وقال أنا أستحي من الله تعالى أن أوصف بما ليس في من عبادته) وفي رواية بعبادة ليست في، يعني احترازا من [ ص: 210 ] دخوله في قوله تعالى: ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال: بينما أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلا يقول لآخر هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعا، وقد روي من وجهين أنه ختم القرآن في ركعة كل ليلة رواه علي بن إسحاق السمرقندي عن أبي يوسف، وعن أسد بن عمرو أن أبا حنيفة صلى العشاء والصبح بوضوء واحد أربعين سنة، وروي يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبيه أنه صحب أبا حنيفة ستة أشهر قال فما رأيته صلى الغداة إلا بوضوء العشاء الأخيرة، وكان يختم القرآن في كل ليلة عند السحر .

وقال الحسين بن محمد السمناني في كتابه خزانة المفتين ووفاته سنة 174، حكى أن أبا حنيفة لما حج حجة الوداع دخل الكعبة وقام بين العمودين على رجله اليمنى حتى قرأ نصف القرآن وركع وسجد ثم قام على رجله اليسرى وقد وضع قدمه اليمنى على ظهر رجله اليسرى حتى ختم القرآن فلما سلم بكى وناجى، وقال: إلهي ما عبدك هذا العبد الضعيف حق عبادتك ولكن عرفك حق معرفتك فهبه نقصان عبادة لكمال معرفته .




الخدمات العلمية