الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان العلم الذي هو فرض كفاية .

اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم ، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية ، وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه ، مثل الحساب ، ولا التجربة مثل الطب ، ولا السماع مثل اللغة فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم ، وإلى ما هو مباح ، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة أما فرض الكفاية : فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب ؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان ، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين .

فلا يتعجب من قولنا : إن الطب والحساب من فروض الكفايات ؛ فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك .

فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله .

وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه ، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه .

التالي السابق


(في العلم الذي هو فرض كفاية)

اعلم (أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الفرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما يستفاد من الأنبياء -صلوات الله عليهم- ولا يرشد العقل إليه، مثل) علم (الحساب، ولا) ترشد إليه (التجربة مثل) علم (الطب، ولا) يرشد إليه (السماع) من الأفواه (مثل) علم (اللغة) فهذه الثلاثة من العلوم لا يقال لها شرعية. والشرعية المنسوبة إلى الشرع باعتبار كون تعلقها مستفادا منه، ومتوقفا عليه .

وفي التلويح: ما لا يدرك لولا خطاب الشارع بنفس الحكم أو بأصله المقيس هو عليه. اهـ .

والعلوم الشرعية ثلاثة: التفسير والحديث والفقه.

(والعلوم التي ليست شرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما ترتبط به مصالح الدنيا) وتنتظم به أمورها (كالطب والحساب) أحدهما لانتظام الأبدان، والثاني لضبط الأموال (وذلك ينقسم إلى ما هو فرض على الكفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة) وسيأتي بيان ذلك .

ثم إن الفرض اصطلاحا: الفعل المطلوب طلبا جازما، ويرادفه الواجب عند المصنف، ثم هو على قسمين: كفاية، وعين .

(أما فرض الكفاية: فهو كل علم) مهم، يقصد حصوله من غير نظر بالذات (ولا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا) ونظامه (كالطب؛ إذ هو) أي: العلم به (ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري) أيضا في (المعاملات) الدنيوية (وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها) فإن في كل منها مسائل يحتاج في معرفتها إلى علم الحساب، ولهذه الضرورة اللازمة أعد الملوك مواضع خاصة بالمرضى، ورتبوا على ذلك أوقافا، وأول من عمل ذلك في الإسلام الوليد بن عبد الملك، كذا ذكره أبو بكر أحمد بن علي الحلواني في لطائف المعارف، وعينوا لقسمة التركات والمواريث قضاة يتولون ذلك خاصة دون غيرهم .

(وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها) أي بخدمتها وتحصيلها (حرج أهل البلد) أي: أفضوا إلى الحرج المؤدي إلى هلاك الأبدان والأموال (وإذا قام واحد كفى) واستغني به (وسقط الفرض عن الآخرين) .

قال أبو عبد الله الخوارزمي في مبيد الهموم: فرض الكفاية ما يجب على كل الخليقة، إلا أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين؛ لدفع الحرج؛ كرما ولطفا من الشارع، كالجهاد والأمر بالمعروف، وتجهيز الموتى، والفتوى، والقضاء، والإمامة، وعمارة المساجد، والأذان، وجواب السلام، وإشباع الجائع، إلى غير ذلك، كل ذلك فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا تركوا بأجمعهم أثموا جميعا. اهـ .

(ولا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات كالفلاحة) هي الزراعة (والحياكة) هي القزازة (والسياسة) بأقسامها وكذلك البناية (بل الحجامة) وهي إخراج الدم بالمحاجم، وفي حكمه الفصادة (فلو خلا البلد عن الحجام تسارع الهلاك إليهم) بنبوغ الدماء (وحرجوا) أي وقعوا في الحرج (بتعريضهم أنفسهم للهلاك) وهذا بالنسبة للبلاد الحارة [ ص: 145 ] كمكة واليمن والصعيد، وأما أهل البلاد الباردة فقل ما يحتاجون إلى الحجامة (فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء) لما روى ابن ماجه، عن ابن مسعود، رفعه: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له الدواء" ورواه هو أيضا وأبو نعيم في الطب، عن أبي هريرة بلفظ: "إلا أنزل الله له شفاء" ورواه بهذا اللفظ الحاكم، عن ابن مسعود، وعند الخطيب في حديث أبي هريرة زيادة، وهي: "علمه من علمه، وجهله من جهله" وهو عند البخاري في الطب بلفظ ابن ماجه، وزاد مسلم: "فإذا أصبت دواء الداء برئ بإذن الله تعالى".

واختلف في معنى الإنزال، فقيل: إعلامه عباده، ومنع بأن في الحديث إخبارا بعموم الإنزال، وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك، وقيل: إنزال أسبابهما من مأكل ومشرب، وقيل: إنزالهما خلقهما ووضعهما في الأرض، كما يشير إليه خبر: "إن الله لم يضع داء إلى وضع له دواء" وتعقب بأن لفظ الإنزال أخص من لفظ الخلق والوضع، وإسقاط خصوصية الألفاظ بلا موجب غير لائق، وقيل: إنزالهما بواسطة الملائكة الموكلين بتدبير النوع الإنساني، وقيل: علامة الأدواء والأودية، وهي بواسطة إنزال الغيث الذي تتولد منه الأغذية والأدوية وغيرها .

وقال بعضهم: إن العلة تحصل بغلبة بعض الأخلاط، والشفاء رجوعها إلى الاعتدال بالتداوي، وقد يحصل بمحض لطف الله تعالى، بلا سبب، ثم الموت إن كان داء فالخبر غير عام؛ إذ لا دواء له؛ ولذا وقع الاستثناء منه في بعض الروايات .

(وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه) وتناوله (ولا يجوز التعرض للهلاك بإهماله) وتركه كما قال تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ثم إن هذا الذي ذكره المصنف في بيان فرض الكفاية هو المشهور عند العلماء، وقد وافقه الخوارزمي في بعض ما ذكره .

وقال ابن القيم: أما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطا صحيحا؛ فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضا، فيدخل بعض الناس في ذلك علم الطب، وعلم الحساب، وعلم الهندسة والمساحات، وبعضهم يزيد على ذلك علم أصول الصناعات الفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة ونحوها، وبعضهم يزيد على ذلك علم المنطق، وربما جعله فرض عين، وبناه على عدم صحة إيمان المقلد، وكل هذه هوس وخبط، فلا فرض إلا ما فرضه الله تعالى ورسوله، فيا سبحان الله! هل فرض الله على كل مسلم أن يكون طبيبا حجاما حاسبا مهندسا أو حائكا أو فلاحا أو نجارا أو خياطا؟! فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين، وإنما يخالفه في سقوطه بفعل البعض .

ثم على قول هذا القائل يكون الله قد فرض على كل أحد جملة هذه الصنائع والعلم؛ فإنه ليس واحد منها فرضا على معين والآخر على معين آخر، بل عموم فرضيتها مشتركة بين العموم، فيجب على كل أحد أن يكون حاسبا أو حائكا خياطا نجارا فلاحا طبيبا مهندسا .

فإن قال: المجموع فرض على المجموع، لم يكن قولنا: إن كل واحد منها فرض كفاية صحيحا؛ لأن فرض الكفاية يجب على العموم .

وأما المنطق: فلو كان علما صحيحا كان غايته أن يكون كالمساحة والهندسة ونحوها، فكيف وباطله أضعاف حقه، وفساده وتناقض أصوله واختلاف مبانيه يوجب مراعاتها للذهن أن يزيغ في فكره، ولا يؤمن بهذا إلا من قد عرفه وعرف فساده وتناقضه، ومناقضة كثير منه للعقل الصريح .

ومن الناس من يقول: إن علوم العربية من التصريف والنحو واللغة والمعاني والبيان ونحوها تعلمها فرض كفاية؛ لتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها، ومن الناس من يقول: تعلم أصول الفقه فرض كفاية؛ لأنه العلم الذي يعرف به الدليل، ومرتبته، وكيفية الاستدلال .

وهذه الأقوال وإن كانت أقرب إلى الصواب من القول الأول فليس وجوبها عاما على كل أحد، ولا في كل وقت، وإنما يجب وجوب الوسائل في بعض الأزمان، وعلى بعض الأشخاص، بخلاف الفرض الذي يعم وجوبه كل أحد، وهو علم الإيمان، وشرائع الإسلام، فهذا هو الواجب، وأما ما عداه فإن توقفت معرفته عليه فهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به، ويكون الواجب منه القدر الموصل إليه دون المسائل التي هي فضلة لا يفتقر معرفة الخطاب وفهمه عليها، فلا يطلق القول بأن علم العربية واجب على الإطلاق؛ إذ الكثير منه ومن مسائله وبحوثه [ ص: 146 ] لا يتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها .

وكذلك أصول الفقه، القدر الذي يتوقف فهم الخطاب عليه منه يجب معرفته دون المسائل المقدرة، والأبحاث التي هي فضلة، فكيف يقال: إن تعلمها واجب .

وبالجملة: فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والأعمال إذا توقف على شيء منها كان ذلك الشيء واجبا وجوب الوسائل، ومعلوم أن ذلك التوقف يختلف باختلاف الأشخاص والألسنة والأذهان، فليس لذلك حد مقدر. والله أعلم. اهـ كلامه .

(وأما ما يعد فضيلة لا فريضة) اعلم أن العلم فريضة وفضيلة، فالفريضة ما لا بد للإنسان من معرفته؛ ليقوم بواجب الدين، والفضيلة ما زاد على قدر حاجته مما يكسبه فضيلة في النفس .

(فالتعمق في دقائق) علم (الحساب) أي: الدخول في عمق الفن كالمسائل الملغزة (وخفايا) وفي نسخة: وحقائق (الطب) ويلحق بذلك التوغل في دقائق التشريح (وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه) وشرط فيه موافقة الكتاب والسنة؛ إذ كل علم لا يوافق الكتاب والسنة وما هو مستفاد منهما أو يعين على فهمهما أو يستند إليهما كائنا ما كان فهو رذيلة وليس فضيلة، يزداد الإنسان به هوانا ورذالة في الدنيا والآخرة .




الخدمات العلمية