الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها أن لا يخالف فعله قوله بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به قال الله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وقال تعالى كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقال تعالى في قصة شعيب وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وقال تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله وقال تعالى واتقوا الله واعلموا واتقوا الله واسمعوا .

وقال تعالى لعيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت : من أنتم فقالوا كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه وقال صلى الله عليه وسلم هلاك أمتي عالم فاجر وعابد جاهل وشر الشرار شرار العلماء وخير الخيار خيار العلماء .

وقال الأوزاعي رحمه الله شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار فأوحى الله إليها بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه .

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان .

التالي السابق


( ومنها) أي: ومن علامات علماء الآخرة ( أن لا يخالف فعله قوله) لأن مخالفة الفعل القول من جملة موانع الإرشاد ( بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به) ليكون قوله أوقع في قلوب السامعين ( قال الله تعالى) في كتابه العزيز ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) أي: تتركونها فتخالفون بأقوالكم أعمالكم وقد تقدم في آخر الباب الخامس أن الآية نزلت في أحبار المدينة قاله ابن عباس ( وقال عز وجل) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) .

قال السيوطي في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران قيل له أرأيت قول الله تعالى، هذا أهو الرجل يقرر نفسه فيقول فعلت كذا وكذا من الخير أم هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان فيه تقصير فقال: كلاهما ممقوت وأخرج عبد بن حميد عن أبي خالد الوالي، قال جلسنا عند خباب بن الأرت فسكتنا فقلنا ألا تحدثنا فإنا جلسنا إليك لذلك فقال أتأمرون أن أقول ما لا أفعل ( وقال تعالى في قصة) سيدنا ( شعيب) ابن يوسف عليه السلام ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) أي: أمنعكم عنه ( وقال تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله ) هما جملتان مستقلتان طلبية وهي الأمر بالتقوى وخيرية أي والله يعلمكم ما تتقون وليست جوابا للأمر ولو أريد الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة من الواو .

( وقال) تعالى ( واتقوا الله واسمعوا ) اتقوا الله وقولوا قولا سديدا فجعل مفتاح القول السديد والعلم الرشيد والسمع المكين التقوى وهي وصية الله عز وجل من قبلنا وإيانا إذ يقول سبحانه: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وهذه الآية قطب القرآن ومداره عليها كمدار الرحى على الحسبان ( وقال) الله ( عز وجل لعيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك) أولا ( فإن اتعظت) هي ( فعظ الناس وإلا فاستحي مني) قال ابن السمعاني [ ص: 369 ] قرأت في كتاب كتبه الغزالي إلى أبي حامد أحمد بن سلامة، بالموصل فقال في خلال فصوله، أما الوعظ فلست أرى نفسي أهلا له لأن الوعظ زكاة نصابه الاتعاظ فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج، وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم عليه السلام فذكره، ( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من أنتم فقالوا إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهى عن الشر ونأتيه) قال العراقي: أخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية مالك بن دينار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالخير، وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.

قال ابن حبان، رواه أبو عتاب الدلال عن هشام عن المغيرة عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس قال: ووهم فيه لأن يزيد بن زريع أتقن من مائتين من مثل ابن عتاب وذويه قال العراقي: قلت طريق ابن عتاب هذه رواها أبو نعيم في الحلية وأبو عتاب احتج به مسلم ووثقه أحمد وأبو زرعة، وأبو حاتم واسمه سهل بن حماد اهـ .

قلت: نص أبي نعيم في الحلية حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا إبراهيم بن هشام حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا هشام الدستوائي عن المغيرة بن حبيب عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم أتيت ليلة أسري بي إلى السماء فإذا أنا برجال تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض فقلت: من هؤلاء يا جبريل قال هم خطباء من أمتك تفرد به يزيد بن زريع عن هشام ورواه أبو عتاب سهل بن حماد عن هشام عن المغيرة عن مالك عن ثمامة عن أنس بن مالك كذلك رواه صدقة عن مالك، حدثنا محمد بن أحمد بن علي بن مخلد، حدثنا أحمد بن الهيثم الوزان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا صدقة بن موسى عن مالك بن دينار، عن ثمامة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت قلت: من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون اهـ .

قلت: وأخرج الخطيب من طريق مسلم بن إبراهيم عن صدقة والحسن بن أبي جعفر قالا: حدثنا مالك بن دينار عن ثمامة فذكره، وأخرج في ترجمة إبراهيم بن أدهم، الزاهد فقال: حدثنا أبو نصر النيسابوري حدثنا إبراهيم أبو الحسن، حدثنا محمد بن سهل العطار، حدثنا أحمد بن سفيان النسائي، حدثنا ابن مصفى، حدثنا إبراهيم بن أدهم، حدثنا مالك بن دينار، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساقه بمثل سياق ابن حبان وقال مشهور من حديث مالك عن أنس غريب من حديث إبراهيم عنه، ثم قال العراقي: وللحديث طرق أخرى أحدها من رواية حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس رواه أحمد والبزار والثاني من رواية عيسى بن يونس عن سليمان التيمي عن أنس رواه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح، والثالث من رواية عمر بن نبهان عن قتادة عن أنس رواه البزار اهـ .

قلت: ورواه أيضا الإمام أحمد وعبد بن حميد في مسنديهما وأبو داود الطيالسي وسعيد بن منصور وأبو يعلى وألفاظ كلهم متقاربة ففي بعضها مررت ليلة أسري بي على قوم وفيها قال خطباء من أهل الدنيا، ويأمرون الناس بالبر بدل الخير والباقي سواء ( وقال صلى الله عليه وسلم هلاك أمتي عالم فاجر وعابد جاهل وشر الشرار شرار العلماء وخير الخيار خيار العلماء) قال العراقي: أما أول الحديث فلم أجد له أصلا، وأما آخره فرواه الدارمي في مسنده من رواية بقية عن الأحوص بن حكيم عن أبيه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر فقال لا تسألوني عن الشر وسلوني عن الخير يقولها ثلاثا، ثم قال إلا أن شر الشرار شرار العلماء وخير الخيار خيار العلماء وهذا مرسل ضعيف، فبقية مدلس وقد رواه بالعنعنة والأحوص، ضعفه ابن معين والنسائي وأبو تابعي لا بأس به اهـ .

قلت: ومن الشواهد للجملة الأولى ما أورده صاحب القوت وروينا عن عمر وغيره كم من عالم فاجر وعابد جاهل فاتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين [ ص: 370 ] وأخرج أبو نعيم في ترجمة معاذ من رواية ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن مالك بن يخامر عن معاذ قال تصديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فقلت يا رسول الله أرنا ناشر الناس فقال: سلوا عن الخير ولا تسألوا عن الشر شرار الناس شرار العلماء في الناس، ويروى معضلا من طريق سفيان عن مالك بن مغول قال: قيل: يا رسول الله فأي الناس شر قال: اللهم غفرا قالوا: أخبرنا يا رسول الله قال العلماء إذا فسدوا ( وقال) أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو ( الأوزاعي) الفقيه الثقة الجليل مات سنة سبع وخمسين ومائتين ( شكت النواويس) جمع ناوس هو القبور ( ما نجد من نتن جيف الكفار) من الأذى ( فأوحى الله تعالى إليها بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه) فلما سمعت ذلك سكتت ( وقال) أبو علي ( الفضيل) بن عياض رحمه الله تعالى ( بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان) قلت: هذا قد جاء مرفوعا قال الطبراني حدثنا موسى بن محمد بن كثير، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي حدثنا عبد الله بن عبد العزيز العمري عن أبي طوالة عن أنس مرفوعا للزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان فيقولون يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان فيقال لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم وأخرج الجوزقاني من طريق قتيبة بن سعيد، حدثنا جابر بن مرزوق الجدي شيخ من أهل جدة حدثنا عبد الله بن عبد العزيز العمري الزاهد، عن أبي طوالة عن أنس مرفوعا إذا كان يوم القيامة يدعى بفسقة العلماء فيؤمر بهم إلى النار قبل عبدة الأوثان ثم ينادي مناد ليس من علم كمن لا يعلم قال ابن الجوزي موضوع جابر ليس بشيء ولعل عبد الملك أخذ منه اهـ .

قال السيوطي ولذا قال ابن حبان إنه باطل وجابر متهم حدث بما لا يشبه حديث الأثبات ولم أر لعبد الملك ذكرا في الميزان ولا في اللسان وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية، الطبراني وقال غريب من حديث أبي طوالة عن أنس تفرد به العمر اهـ .

قلت: وهذا غريب من الحافظ السيوطي عبد الملك الجدي ثقة من رجال البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي فالصواب الحكم على حديث الطبراني بعد البطلان لأن رجاله ثقات غير شيخ الطبراني موسى بن محمد بن كثير فقد ذكره الذهبي في الميزان وأورد له هذا الحديث، وقال منكر وله شاهد صحيح رواه الترمذي وحسنه وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة قلت: ومسلم أيضا نحوه وأشار له الحافظ المنذري، ثم قال السيوطي: وأخرج المرهبي في فضل العلم من رواية عمرو بن جميع بن جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين رفعه للزبانية إلى فسقة حملة القرآن أسرع فساقه كسياق حديث الطبراني إلا أن فيه يا رب بدئ بنا يا رب سورع إلينا .

وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من رواية عمرو بن الحارث، حدثنا عكرمة بن عمار عن طاوس عن ابن عباس رفعه يدخل فسقة حملة القرآن قبل عبدة الأوثان بألفي عام.

وأخرج الخطيب في الاقتضاء من طريق زكريا بن يحيى المروزي، حدثنا معروف الكرخي، قال: قال بكر بن خنيس إن في جهنم واديا ثم ساق حديثا طويلا وفي آخره يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون: أي رب بدئ بنا قبل عبدة الأوثان قيل: ليس من يعلم كمن لا يعلم .




الخدمات العلمية