الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما زهده فقد روي عن الربيع بن عاصم قال أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة عليه فأراده أن يكون حاكما على بيت المال فأبى فضربه عشرين سوطا .

فانظر كيف هرب من الولاية واحتمل العذاب قال الحكم بن هشام الثقفي حدثت بالشام حديثا في أبي حنيفة أنه كان من أعظم الناس أمانة وأراده السلطان على أن يتولى مفاتيح خزائنه أو يضرب ظهره فاختار عذابهم له على عذاب الله تعالى .

وروي أنه ذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك فقال أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففر منها .

وروي عن محمد بن شجاع عن بعض أصحابه أنه قيل لأبي حنيفة قد أمر لك أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور بعشرة آلاف درهم قال فما رضي أبو حنيفة قال فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى بالمال فيه صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم فجاء رسول الحسن بن قحطبة بالمال فدخل عليه فلم يكلمه فقال بعض من حضر ما يكلمنا إلا بالكلمة بعد الكلمة أي : هذه عادته فقال ضعوا المال في هذا الجراب في زاوية البيت ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك بمتاع بيته وقال لابنه إذا مت ودفنتموني فخذ هذه البدرة واذهب بها إلى الحسن بن قحطبة فقل له خذ وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة .

قال ابنه ففعلت ذلك فقال الحسن رحمة الله على أبيك فلقد ، كان شحيحا على دينه .

وروي أنه دعي إلى ولاية القضاء فقال أنا لا أصلح لهذا فقيل له : لم ؟ فقال إن كنت صادقا فما أصلح لها وإن كنت كاذبا فالكاذب لا يصلح للقضاء .

وأما علمه بطريق الآخرة وطريق أمور الدين ومعرفته بالله عز وجل فيدل عليه شدة خوفه من الله تعالى وزهده في الدنيا وقد قال ابن جريج قد بلغني عن كوفيكم هذا النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى .

وقال شريك النخعي كان أبو حنيفة طويل الصمت دائم الفكر قليل المحادثة للناس فهذا من أوضح الأمارات على العلم الباطني والاشتغال بمهمات الدين فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله فهذه نبذة من أحوال الأئمة الثلاثة .

التالي السابق


(وأما زهده فقد روي عن الربيع بن عاصم) لم أجده هكذا في الرواة عن أبي حنيفة وفي الميزان الربيع بن إسماعيل أبو عاصم عن الجعدي من ولد جعفر بن هبيرة وعنه بكر بن الأسود ومحمد بن إسماعيل الأحمسي فلعله هو هو وتصحف على النساخ، ثم وجدت بعد ذلك هذا السياق بعينه في كتاب التاريخ لابن أبي خيثمة أورده بسنده من طريق الربيع بن عاصم هكذا (قال أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة) والي الكوفة من قبل مروان بن محمد، وإليه نسب قصر ابن هبيرة بالكوفة (فقدمت بأبي حنيفة عليه فأراده) أن يوليه (على بيت المال) وقيل القضاء (فلم يله وضربه عشرين سوطا) ، وأخرج الخطيب من طريق أبي بكر بن عياش أن أبا حنيفة ضرب على القضاء، زاد أبو معمر الراوي عن أبي بكر بن عياش مائة سوط في أيام باردة وذلك في ولاية مروان بن محمد فإنه أمر ابن هبيرة على العراق فأكره أبا حنيفة فلم يل، وأخرج العسكري من طريق يحيى بن أكثم عن أبي داود قال: أراد ابن هبيرة أن يولي الإمام قضاء الكوفة فأبى فحلف إن لم يقبله يضربه بالسياط على رأسه ويحبسه فحلف الإمام على أنه لا يلي منه فقيل له: إنه حلف على أن يضربك فقال ضربه في الدنيا أهون من معالجة مقامع الحديد في العقبى، والله والله لا أفعل ولو قتلني، فقيل: إنه حلف لا يخليك وإنه يريد بناء قصر فتولى له عد اللبن، فقال لو سألني أن أعد له أبواب المسجد ما فعلت فذكر للأمير فقال: أبلغ قدره أن يعارضني في اليمين فدعاه فشافهه وحلف إن لم يقبل يضرب على رأسه عشرين سوطا، فقال: اذكر مقامك بين يدي الله تعالى فإنه أذل من مقامي هذا ولا تهددني فإني أقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والله يسألك عني حيث لا يقبل منك الجواب إلا بالحق، فأومأ إلى الجلاد أن أمسك وبات في السجن وأصبح وقد انتفخ وجهه ورأسه من الضرب .

وأخرجه الخطيب من هذا الطريق وزاد: فرأى ابن هبيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام يعاتبه فيه، فأخرجه من السجن فاستحله، وروي عن أبي عبد الله بن حفص الكبير البخاري قال: إن الفتنة لما ظهرت بخراسان دعا ابن هبيرة العلماء، كابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود بن أبي هند وولي كل واحد منهم شيئا من عمله وعرض على أبي حنيفة، أن يكون الخاتم بيده ولا ينفذ كتابا إلا من تحت يده، وأمره بذلك فأبى فحلف الأمير إن لم يله يضربه في كل جمعة سبعة أسواط، فقال الفقهاء لأبي حنيفة إن إخوانك يناشدونك على أن لا تهلك نفسك وكلنا نكره عمله ولكن لم نجد بدا منه، فقال: لو أراد مني أن أعد أبواب مسجد واسط لم أعد له فكيف وهو يريد أن يكتب في دم رجل وأختم له، والله لا أدخل في ذلك فقال ابن أبي ليلى دعوه فإنه مصيب، فحبسه الشرطي وضربه أربعة عشر سوطا، ثم اجتمع مع الأمير فقال: ألا ناصح لهذا أن يستمهلني، فاستمهله وقال أشاور إخواني فخلاه فهرب إلى مكة سنة مائة وثلاثين. اهـ .

وأخرج الخطيب من طريق الحسن بن المبارك عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: مررت [ ص: 211 ] مع أبي بالكناسة فبكى فقلت: يا أبت ما يبكيك؟ فقال: يا بني في هذا الموضع ضرب ابن هبيرة أبي عشرة أيام كل يوم عشرة أسواط على أن يلي القضاء فلم يفعل، وأخرج ابن أبي العوام السعدي من رواية أبي عبد الله وسمعت محمد بن مقاتل يقول: بلغني أن أبا حنيفة حبس في الشمس وصب على رأسه الزيت فمر به سفيان الثوري، فقال: قد علمت الآن أنك طلبت هذا الشأن لله -عز وجل- وفي تاريخ الذهبي عن أبي معاوية قال: حسب أبي حنيفة من السنة أنه ضرب أياما ليلي القضاء فأبى، وقال أبو عبد الله الصيمري لم يقبل العهد بالقضاء فضرب وحبس ومات في السجن.

(فانظر كيف هرب من الولاية واحتمل العذاب) ويروى عن ابن المبارك أنه قال: إن الرجال في الاسم سواء حتى يقع في البلوى، فقد ضرب أبو حنيفة على رأسه في السجن فصبر على الذل والضرب في الحبس طلبا للسلامة في دينه، وروى ابن داسة، قال: سمعت أبا داود يقول: رحم الله مالكا كان إماما رحم الله الشافعي كان إماما رحم الله أبا حنيفة كان إماما (وقال الحكم بن هشام الثقفي) مولى آل عقيل كوفي نزل دمشق روى عن منصور وقتادة وعنه ابن عائذ أي: ابن هبيرة من قبل آل مروان (أن يتولى مفاتيح خزائنه) أي: خزائن أمواله (أو يضرب ظهره) بالسياط (فاختار عذابهم) في الدنيا ولم يل العمل (على عذاب الله) في الآخرة (وروي أنه ذكر أبو حنيفة) يوما (عند ابن المبارك) كأنه بسوء (فقال أتذكرون) بالسوء (رجلا عرضت عليه الدنيا بحذافيرها) أي بأجمعها (ففر منها) خوفا على دينه، وأخرج ابن أبي العوام السعدي في مسنده من طريق ابن شجاع، حدثنا الحسن بن أبي مالك، سمعت عبد الله بن المبارك يقول: وذكر أبو حنيفة بين يديه ماذا يقال في رجل عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة فنبذها وضرب بالسياط فصبر عليها ولم يدخل فيما كان غيره يستدعيه .

رحم الله أبا حنيفة ما كان أشده في دين الله -عز وجل- وتقدم في خاتمة الفصول ما نقله ابن عبد البر في كتاب العلم أن ابن المبارك قيل له: فلان يتكلم في أبي حنيفة فأنشد:

حسدوك لما رأوك فضلك الله بما فضلت به النجباء

وقيل لأبي عاصم النبيل: فلان يتكلم في أبي حنيفة فقال: هو كما قال نصيب:

في مثل هذا سلمت وهل حي من الناس سالم

وقال أبو الأسود الديلي:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم

قلت: وأخرج ابن عساكر في ترجمة نصيب من رواية أبي الحسن علي بن محمد السكري أنشدنا أبو عمر اللغوي الزاهد السياري عن الناشي لنصيب:

وما زال بي الكتمان حتى كأنني برجع جواب السائلي عنك أعجم
لا سلم من قول الوشاة وتسلمي هديت، وهل حي على الناس يسلم

(وروي عن محمد بن شجاع) الثلجي بالمثلثة والجيم الفقيه البغدادي الحنفي أبو عبد الله صاحب التصانيف قرأ على اليزيدي، وروى عن ابن عسيلة، ووكيع وتفقه بالحسن بن زياد اللؤلؤي وغيره، وآخر من حدث عنه محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة، وقد تكلم فيه ابن عدي بالوضع وزكريا الساجي بالكذب .

وقال الحاكم: رأيت عند محمد بن أحمد بن موسى القمي عن أبيه عن محمد بن شجاع كتاب المناسك في نيف وستين جزأ كبار دقاق، وقال أحمد بن كامل القاضي كان فقيه العراق في وقته وقال أبو الحسن بن النادي: كان يتفقه ويقرئ الناس القرآن مات ساجدا في صلاة العصر سنة 248 عن ست وثمانين سنة كذا في الميزان ( عن بعض أصحابه) فيما أخرجه ابن أبي العوام السعدي عن أبي بشر عن محمد بن شجاع والمراد ببعض أصحابه هنا هو الحسن بن عمارة أبو محمد الكوفي الفقيه من رجال الترمذي وابن ماجه عن ابن أبي مليكة والحاكم وعنه شبابة وعبد الرزاق وولي قضاء بغداد للمنصور، ومات سنة 153 [ ص: 212 ] (أنه قيل لأبي حنيفة قد أمر لك أبو جعفر) المنصور (أمير المؤمنين) وذلك بعد رجوع أبي حنيفة من مكة (بعشرة آلاف درهم) وفي رواية أخرى وجارية وكان الرسول في ذلك الحسن بن قحطبة (قال فما رضي أبو حنيفة) أن يقبلها فلما أحس أبو حنيفة بأنه يرسل بهذا إليه تمارض (فلما كان اليوم الذي توقع) أي: ترجى (أن يؤتى) إليه (بالمال) فيه (صلى الصبح ثم تغشى بثوبه) أي: اشتمل به من رأسه إلى قدمه (فلم يتكلم) وفي رواية أصبح لا يكلم أحدا كأنه مغمى عليه (فجاء رسول) أبي الحسين (الحسن بن قحطبة) ابن إياد بن شبيب بن خالد بن معدان بن شمس بن قيس بن كلب بن سعد بن عمرو بن غنم بن مالك بن سعد بن نبهان الطائي أحد رجال الدولة العباسية وأخوه حميد أحد الدعاة السبعين بعد العشرين والاثني عشر، وإليه نسب ربض حميد ببغداد، وأبوهما قحطبة أحد النقباء الاثني عشر (بالمال فدخل عليه فلم يكلمه) وأظهر المرض (فقال بعض من حضر) في مجلسه هو (ما يكلمنا إلا بالكلمة بعد الكلمة أي: هذه عادته) اعتذارا عن عدم كلامه، وفي رواية فقالوا: ما تكلم اليوم بكلمة (فقال) رسول الحسن لما أيس من كلامه (صموا المال في هذا الجراب) ثم خلوه (في زاوية البيت) وفي رواية فقال رسول الحسن كيف أصنع؟ قالوا: انظر ما ترى، قال: فوضعها في مسجد في ناحية البيت وانصرف .

قال: فمكثت تلك البدرة في ذلك الموضع إلى أن مات أبو حنيفة (ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك بمتاع بيته فقال) : في وصيته (لابنه) وهو الإمام ابن الإمام حماد بن النعمان بن إسماعيل تفقه على أبيه فأفتى في زمنه، وروى عنه وعن مالك وحماد بن أبي سليمان، وكان الغالب عليه الورع، قال الفضل بن دكين، تقدم حماد بن النعمان إلى شريك بن عبد الله في شهادة فقال له شريك: والله إنك لعفيف البطن والفرج توفي سنة 179 (إذا مت) وقوله هذا كان في كتاب وصيته وذلك؛ لأن حمادا كان غائبا فقدم بعد موت والده فحمل البدرة فأتى بها باب الحسن بن قحطبة، فاستأذن فأذن له فدخل، فقال إني وجدت في وصية أبي إذا أنا مت (ودفنتموني فخذ هذه البدرة) التي في زاوية البيت (فاذهب بها إلى الحسن بن قحطبة فقل له هذه وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة) ويروى كانت عندنا (فقال الحسن) لما رأى البدرة (رحمة الله على أبيك، لقد كان شحيحا على دينه) ويروى: رحم الله أباك لقد شح على دينه إذ سخت به أنفس أقوام .

وذكر عبد القادر القرشي في ترجمة حماد من طبقاته، ولما توفي أبوه كان عنده ودائع للناس كثيرة من ذهب وفضة وغير ذلك وأربابها غائبون وفيهم أيتام فحملها حماد إلى القاضي ليتسلمها منه، فقال له القاضي ما نقبلها منك ولا تخرجها من يدك فأنت أهل بوضعها فقال له حماد زنها، واقبضها حتى تبرأ ذمة أبي حنيفة، ثم افعل ما بدا لك، ففعل القاضي ذلك، وبقي في وزنها أياما، فلما كمل وزنها استتر حماد فلم يظهر حتى دفعها إلى غيره. اهـ .

وأخرج ابن قطلوبغا الحافظ في شرح المسانيد من رواية محمد بن عبد الرحمن المسعودي عن أبيه ومن رواية هلال بن يحيى عن يوسف السمي قالا: إن أبا جعفر المنصور أجاز أبا حنيفة بثلاثين ألف درهم، في دفعات فقال: يا أمير المؤمنين إني ببغداد غريب وليس لها عندي موضع فاجعلها في بيت المال فأجابه المنصور إلى ذلك فلما مات أبو حنيفة أخرجت ودائع الناس من بيته فقال المنصور: خدعنا أبو حنيفة، وأخرج أيضا من طريق مغيث بن مدرك، قال: قال خارجة بن مصعب أجاز المنصور أبا حنيفة بعشرة آلاف درهم، فدعي لقبضها فشاورني وقال: هذا رجل إن رددتها عليه غضب وإن قبلتها دخل علي في ديني ما أكرهه، فقلت: إن هذا المال عظيم في غيبته فإذا دعيت لقبضها قل له لم يكن هذا أملى من أمير المؤمنين فدعي لقبضها فقال ذلك ورفع إليه خبره فحبس الجائزة، قال وكان أبو حنيفة لا يشاور أحدا في أمره سوى خارجة بن مصعب.

(وروى أنه دعي إلى ولاية القضاء) الأكبر ببغداد بعد أن أشخص من الكوفة في أيام المنصور فامتنع فحبسه فبقي خمسة عشر يوما ثم مات، وقيل: ستة أيام، وقيل إنه سقي سما في سويق فنال مرتبة الشهادة، كل ذلك أخرجه الخطيب من طريق [ ص: 213 ] الواقدي وفي رواية أخرى دعا من الكوفة وأراده على القضاء (فقال أنا لا أصلح له ولا يحل لك أن توليني) ذلك (فقيل له: لم؟) ذلك (فقال إن كنت صادقا فلا أصلح له) لصدقي في المقال (وإن كنت كاذبا) كما تزعمون (فالكاذب لا يصلح للقضاء) لسقوط عدالته بالكذب، وقد رويت هذه القصة من أوجه كثيرة ففي تاريخ الذهبي، قال إسحاق بن إبراهيم الزهري عن بشر بن الوليد الكندي: قال: طلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء وحلف ليلين فأبى وحلف أن لا يفعل فقال الربيع حاجب المنصور ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف قال أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني فأمر به إلى السجن فمات فيه، وعن مغيث بن بديل قال دعا المنصور أبا حنيفة على القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: لا أصلح، قال: كذبت، قال أبو حنيفة: فقد حكم أمير المؤمنين على أني لا أصلح فإن كنت كاذبا فلا أصلح وإن كنت صادقا فقد أخبرتكم إنى لا أصلح فحبسه .

وقال إسماعيل بن أبي إدريس سمعت الربيع بن يونس الحاجب يقول رأيت المنصور تناول أبا حنيفة في أمر القضاء، فقال: والله ما أنا بمأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب، فلا أصلح لذلك فقال: كذبت بل تصلح فقال: كيف يحل لك أن تولي من يكذب .

(وأما علمه بطريق) وفي نسخة: بأمور وفي أخرى بعلوم (الآخرة وطريق الدين ومعرفته بالله تعالى فيدل عليه شدة خوفه من الله تعالى وزهده في الدنيا وقد قال) أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز (ابن جريج) القرشي مولاهم المكي الفقيه أحد الأعلام روى عن مجاهد والحسن وابن أبي مليكة وعطاء وعنه القطان وروح وحجاج بن محمد وهو أول من صنف الكتب، وقال أحمد كان من أوعية العلم روى عن ست عجائز من عجائز المسجد الحرام، توفي سنة تسع وأربعين ومائة وقد جاوز المائة (قد بلغني عن كوفيكم هذا) يعني (النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى) وفي تاريخ الذهبي قال يزيد بن كميت سمعت رجلا يقول لأبي حنيفة: اتق الله فانتفض واصفر لونه، وأطرق وقال: جزاك الله خيرا، ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا .

وروى محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن، عن القاسم بن معين: أن أبا حنيفة قام ليلة يردد على شدة خوفه من الله تعالى (وقال) أبو عبد الله (شريك) ابن عبد الله بن أبي شريك وهو الحارث بن أوس بن الحارث بن الأذهل بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع (النخعي) الكوفي القاضي ولد ببخارى سنة 95 وكان جده شهد القادسية وهو أحد الأعلام، روى عن زياد بن علاقة وسلمة بن كهيل وعلي بن الأقمر وأبي إسحاق ومنصور وعنه أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن حجر وإسحاق بن يوسف الأزرق وغيرهم قال ابن معين ثقة زاد العجلي حسن الحديث، مات سنة سبع وسبعين ومائة استشهد به البخاري وروى له مسلم في المتابعات واحتج به الباقون (كان أبو حنيفة طويل الصمت دائم الفكر) في جلال الله وعظمته (قليل المحادثة للناس) أي: إلا فيما يعنيه وروى حماد، قال كان أبي هيوبا لا يتكلم إلا جوابا ولا يخوض فيما لا يعنيه (وهذا من أوضح الإمارات) أي: العلامات (على العلم الباطن والاشتغال بمهمات الدين) وضرورياته (فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله) لأنهما يدلان على العلم الباطن، وسيأتي قول من أوتي صمتا نجا من السوء على أن الكامل إذا نطق نطق بحكمة وإذا صمت صمت عن حكمة فجميع أحواله يدل على العلم الباطن .

وبقي من ترجمة الإمام شيء أورده الذهبي في تاريخه أوردته هنا ليكون كالذيل لما ذكره المصنف قال كان أبو حنيفة خرازا ينفق من كسبه ولا يقبل شيئا من جوائز السلطان تورعا، وكان له دار وضياع ومعاش متسع، وكان معدودا في الأجواد الأسخياء والألباب الأذكياء مع الدين والعبادة والتهجد وكثرة التلاوة وقيام الليل، قال خزاز بن صرد: سئل يزيد بن هارون أيما أفقه أبو حنيفة أم الثوري فقال أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة وقال [ ص: 214 ] يزيد بن هارون ما رأيت أحدا أورع ولا أعقل من أبي حنيفة وقال صالح بن جرزة سمعت يحيى بن معين يقول أبو حنيفة ثقة وعن النضر بن محمد قال: كان أبو حنيفة جميل الوجه، سري الثوب عطرا، وقال أبو يوسف كان ربعا، من أحسن الناس صورة وأبلغهم نطقا وأعذبهم نغمة وأبينهم عما في نفسه، وعن ابن المبارك ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة وروى إبراهيم بن سعد الجوهري عن المثنى بن رجاء، قال: جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقا أن يتصدق بدينار وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وقال أبو بكر بن عياش لقي أبو حنيفة من الناس عنتا لإقلال مخالطته فكانوا يرونه من زهو فيه، وإنما كان غريزة، وقال جبارة بن المغلس سمعت قيس بن الربيع يقول: كان أبو حنيفة ورعا تقيا مفضلا على إخوانه، وقال زيد بن أحرم: حدثنا داود الخربيني قال: كنا عند أبي حنيفة فقال رجل له إني وضعت كتابا على خطك إلى فلان فوهب لي أربعة آلاف درهم فقال أبو حنيفة: إن كنتم تنتفعون بهذا فافعلوه، وروى نوح الجامع أنه سمع أبا حنيفة يقول: ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان غير ذلك فهم رجال ونحن رجال، وقال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث إلا بما يحفظه في وقت ما سمعه، روى أبو يوسف ذلك عنه .

وقال أحمد بن الصباح قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة قال نعم رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته، وقال الخربيني: ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل وقال يحيى القطان: لا نكذب والله ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله وقال علي بن عاصم لو وزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم، وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر لا يعيبه إلا جاهل، وقال الحميدي: سمعت ابن عيينة يقول شيئان ما ظننتهما يجاوزان قنطرة الكوفة قراءة حمزة وفقه أبي حنيفة، وقد بلغا الآفاق، وعن الأعمش أنه سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت وأظنه بورك له في علمه، وقال جرير قال لي مغيرة جالس أبا حنيفة تتفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حيا لجالسه، وأخبار أبي حنيفة كثيرة وترجمته واسعة وفيما ذكرناه كفاية .

(فهذه أحوال الأئمة الثلاثة) الدالة على الخصال الخمس رضي الله عنهم .




الخدمات العلمية