الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثاني : أن يكون مضرا بصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم فإنه في نفسه غير مذموم لذاته إذ هو قسمان قسم حسابي وقد نطق القرآن بأن مسير الشمس والقمر محسوب إذ قال عز وجل : الشمس والقمر بحسبان وقال عز وجل : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم والثاني الأحكام وحاصله يرجع إلى الاستدلال على الحوادث بالأسباب وهو يضاهي استدلال الطبيب بالنبض على ما سيحدث من المرض وهو معرفة لمجاري سنة الله تعالى وعادته في خلقه ولكن قد ذمه الشرع .

قال صلى الله عليه وسلم : إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا .

وقال صلى الله عليه وسلم : أخاف على أمتي بعدي ثلاثا : حيف الأئمة والإيمان ، بالنجوم والتكذيب ، بالقدر .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البر والبحر ثم أمسكوا

التالي السابق


(الثاني: أن يكون مضرا بصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم فإنه في نفسه غير مذموم لذاته إذ هو قسمان) اعلم أن علم النجوم علم بأحكام يستدل بها إلى معرفة الحوادث الكائنة في عالم الكون من الصلاح والفساد بالتشكيلات الفلكية، وهي أوضاع الأفلاك والكواكب كالمقارنة والمقابلة والتثليث والتربيع إلى غير ذلك وهو عند الإطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام (قسم حسابي) وهو يقيني في علمه شرعا (وقد نطق القرآن بأن سير الكواكب محسوب إذ قال تعالى: الشمس والقمر بحسبان ) أي يجريان بحساب وتقدير لا يعلمه إلا من أطلعه من خلقه عليه فلا يجاوزان ما قدر لهما من جريهما لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون قيل: الحسبان جمع حساب والأصوب أنه مصدر، يقال: حسب الشيء يحسبه حسبانا، وأصل الحساب استعمال العد والتقدير، قال عبد بن حميد في سننه حدثنا جعفر بن عون حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك: الشمس والقمر بحسبان قال بحساب ومنازل، وقال مجاهد في تفسيره فيما رواه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن [ ص: 221 ] ابن أبي نجيح عنه قال: كحسبان الرحى، والقولان ذكرهما البخاري في صحيحه (وقال تعالى: والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) منازل القمر ثمان وعشرون: وهو السرطان والبطين والثريا والدبران والهفعة والهنعة والذارع والنشرة والطرفة والجبهة والزبوة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعيم والبلوة وسعد الذابح، وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرع الدلو المقدم وفرع الدلو المؤخر والرشا والعرجون فعلون من الانعراج أي: الانعطاف، والمراد به عود الكناسة التي عليها التماريخ للعذق فإذا قدم تقوس واصفر، ولذلك شبه به الهلال في آخر الشهر وأوله .

(والثاني) قسم طبيعي كالاستدلال بانتقال الشمس في البروج الفلكية على تغير الفصول بالحر والبرد والاعتدال وهذا ليس بمردود شرعا أيضا .

والثالث: قسم وهمي ويسمى علم (الأحكام) وفي مفتاح السعادة: اعلم أن أحكام النجوم غير علم النجوم؛ لأن الثاني يعرف بالحساب فيكون من فروع الرياضة والأول يعرف بدلالة الطبيعة على الآثار فيكون من فروع الطبيعي، ولهما فروع منها علم الاختيارات وعلم الرمل وعلم القال، وعلم القرعة، وعلم الطيرة والزجر. اهـ .

وهذا الذي ذكره من الفرق لا بأس به ولكن هذا أهم متى أطلق في العقليات أريد به الأحوال الغيبية المنتجة من مقدمات معلومة هي الكواكب من جهة حركاتها ومكانها وزمانها (وحاصله يرجع إلى الاستدلال على الحوادث الكونية بالأسباب) من اتصال الكواكب بطريق العموم والخصوص وهذا لا استناد له إلى أصل شرعي فهو مردود شرعا (وهو يضاهي) أي يشبه (استدلال الطبيب بالنبض) أي: بجسه (على ما سيحدث) للمريض (من المرض وهو معرفة بمجاري سنة الله تعالى وعادته في خلقه ولكنه مذموم في الشرع) قال المولى أبو الخير: واعلم أن كثيرا من العلماء على تحريم علم النجوم مطلقا، وبعضهم على تحريم اعتقاد أن الكواكب مؤثرة بالذات، وقد ذكر عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- قال: إن اعتقد المنجم أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى لكن عادته تعالى جارية على وقوع الأحوال بحركاتها وأوضاعها المعهودة ففي ذلك لا بأس عندي، وحديث الذم ينبغي أن يحمل على من يعتقد تأثير النجوم كذا ذكره ابن السبكي في طبقاته الكبرى وعلى هذا يكون إسناد ذلك إلى النجم مذموما، فقد قال العلماء: إن اعتقاد التأثير لها في شيء ما حرام إذا أول وإذا لم يأول فهو كفر والعياذ بالله تعالى اهـ .

ونقل الخطيب من كتاب الأنواء لأبي حنيفة المنكر من النظر في النجوم نسبة الآثار إلى الكوكب وإنها هي المؤثرة وأما من زعم التأثير إلى خالقها وزعم أنه نصبها إعلاما على ما يحدثه فلا جناح عليه. اهـ .

وذكر صاحب مفتاح السعادة أن ابن القيم الجوزي أطنب في الطعن على مرتكبه بل ذهب إلى تكفيره. اهـ .

قلت: وذكر بعضهم أن مما يشهد بصحة علم الأحكام بنية بغداد فقد أحكمها الواضع والشمس في الأسد والعطارد في السنبلة والقمر في القوس فقضى الحق أن لا يموت فيها ملك ولم يزل كذلك، وهذا بحسب العموم، وأما بالخصوص فمتى علمت مولد شخص سهل عليك الحكم لكل ما يتم له من مرض وعلاج وكسب وغير ذلك، كذا في تذكرة داود، ويمكن المناقشة في شاهده بعد الإمعان في التواريخ، لكن لا يلزم من الجرح بطلان دعواه، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون بعض الأجرام العلوية أسبابا للحوادث السفلية فيستدل المنجم العاقل من كيفية حركات النجوم باختلاف مناظرها وانتقالاتها من برج إلى برج على بعض الحوادث الكائنة قبل وقوعها كما يستدل الطبيب الحاذق بكيفية حركة النبض على حدوث العلة قبل وقوعها؟ يقال: يمكن هذا على طريق إجراء العادة أن يكون بعض الحوادث سببا لبعضها لكن لا دليل فيه على كون الكواكب أسبابا وعللا للسعادة والنحوسة لاحسا ولا عقلا ولا سماعا، أما عقلا فسيأتي بيانه قريبا في الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة في الزجر عنه وأما سماعا فقد (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا) قال العراقي: أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد حسن. اهـ. أي: في معجمه [ ص: 222 ] الكبير من رواية مسهر بن عبد الملك بن سلع الهمداني عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رفعه وفيه تقديم الجملة الأخيرة ثم الثانية ثم الأولى، ورواه الخطيب في كتاب القول في علم النجوم، لفظ المصنف من رواية أبي مخذم عن أبي قلابة عن ابن مسعود، وأبو مخذم اسمه النصر بن سعيد ليس بشيء قاله ابن معين، وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود، ورواه الطبراني أيضا من حديث ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبه عليه الحافظ ابن حجر وابن عدي في الكامل عن عمر بن الخطاب بسند ضعيف، وقال الهيثمي فيه يزيد بن ربيعة وهو ضعيف، ورواه أبو الشيخ في كتاب الطبقات من رواية الحسن عن أبي هريرة مرفوعا في أثناء حديث، وقال ابن رجب روي من وجوه في إسنادها كلها مقال، وقد رمز السيوطي لحسنه تبعا لابن حصري ولعله اعتضد، قال المناوي في شرح هذا الحديث أي: لما في الخوض في الثلاثة من المفاسد التي لا تحصى (وقال -صلى الله عليه وسلم-: أخاف على أمتى بعدي ثلاثا: حيف الأئمة، وإيمان بالنجوم، وتكذيب بالقدر) قال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي محجن بسند ضعيف. اهـ .

قلت: هو من رواية علي بن يزيد الصدائي، حدثنا أبو سعيد البقال عن أبي محجن، قال: أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: فذكره، وأخرجه ابن عساكر كذلك من طريقه وأبو محجن اسمه عمرو بن حبيب الثقفي فارس شاعر صحابي، والرواية إيمانا وتكذيبا بالنصب فيهما وإنما نكر إيمانا ليفيد الشيوع فيدل على التحذير من التصديق بأي شيء كان من ذلك جزئيا أوكليا مما كان من أحد، فسمى علم النجوم وهو علم التأثير لا التيسير فإنه غير ضار كما تقدم .

وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة رفعه، إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها النجوم، وتكذيب بالقدر وحيف السلطان، وأخرج أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني في معاجيمه الثلاثة من حديث جابر بن سمرة بلفظ: ثلاثا أخاف على أمتي استسقاء بالأنواء، وحيف بالسلطان، وتكذيب بالقدر، وأخرج أبو يعلى في مسنده وابن عدي في الكامل والخطيب في كتاب النجوم عن أنس بسند حسن أخاف على أمتي بعدي خصلتين، تكذيبا بالقدر وتصديقا بالنجوم، ومن شواهد الحديثين ما أخرجه الديلمي في الفردوس وابن حصري في أماليه، عن عمر بن الخطاب مرفوعا: لا تسألوا عن النجوم لا تماروا في القدر ولا تفسروا القرآن برأيكم ولا تسبوا أحدا من أصحابي فإن ذلك الإيمان الإيمان المحض، هكذا أخرجه السيوطي في الجامع الكبير .

قلت: وأخرجه الخطيب في ذم النجوم من حديث إسماعيل بن عياش عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي ذر عن عمر موقوفا كذا في شرح ابن الملقن على البخاري، (وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البر والبحر ثم أمسكوا) عزاه الشيخ إلى عمر بن الخطاب ووقفه عليه ولم يتعرض له العراقي في تخريجه، وقد روي ذلك مرفوعا عن ابن عمر أخرجه ابن مردويه في التفسير، والخطيب البغدادي في كتاب ذم النجوم ولفظهم: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا.

قال المناوي: قال عبد الحق: وليس إسناده مما يحتج به. انتهى، وقال ابن القطان: فيه من لا أعرف. انتهى، لكن رواه ابن زنجويه من طريق آخر وزاد: وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا.

قال المناوي في شرح قوله: ثم انتهوا ما نصه: فإن النجامة تدعو إلى الكهانة والمنجم كاهن والكاهن ساحر، والساحر كافر، والكافر في النار، كذا علله علي كرم الله وجهه .

قال ابن رجب: فالمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره وفيه ورد الخبر: من اقتبس من شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من الكفر، وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه منه لاهتداء ومعرفة القبلة وما زاد عليه لا حاجة إليه لشغله عما هو أهم منه، وربما أدى بتدقيق النظر فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين كما وقع من أهل هذا العلم قديما وحديثا وذلك مفض إلى اعتقاد خطأ السلف في صلاتهم وهو باطل. اهـ .

قال الزمخشري: كان علماء بني إسرائيل يكتمون علمين من أولادهم النجوم والطب لئلا يكون سببا لصحبة الملوك فيضمحل دينهم.. اهـ .

وفي صحيح البخاري قال قتادة: هذه النجوم لثلاث جعلها [ ص: 223 ] زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به، قال ابن الملقن هذا التعليق قد أخرجه عبد بن حميد، في مسنده عن يونس عن سفيان عنه بلفظ: فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه قال الداودي: وهو قول حسن إلا قوله أخطأ وأضاع فقصر فيه؛ لأن من قال فيه بالعصبية كافر. اهـ .

وأخرج الخطيب في ذم النجوم من حديث عبيد الله بن موسى عن الربيع بن حبيبة عن قويد بن عبد الملك عن أبيه عن علي: نهاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النظر في النجوم، وعن أبي هريرة وعائشة وابن مسعود وابن عباس نحوه و عن الحسن أن قيصر سأل قس بن ساعدة الأيادي: هل نظرت في النجوم؟ قال: نعم، نظرت فيما يراد به الهداية، ولم أنظر فيما يراد به الكهانة وقد قلت في النجوم أبياتا وهي:

علم النجوم على العقول وبال وطلاب شيء لا ينال ضلال ماذا طلابك علم شيء غيبت
من دونه الخضراء ليس ينال هيهات ما أحد بغامض فطنة
يدري متى الأرزاق والآجال إلا الذي من فوق عرش ربنا
فلوجهه الإكرام والإجلال

وقال المأمون: علمان نظرت فيهما وامتنعت فلم أرهما يصحان ; النجوم والسحر .




الخدمات العلمية