ولنذكر أولا الحديث الذي استنبط منه العلماء التجديد، روى في الملاحم، والحاكم في الفتن وصححه، أبو داود في كتاب المعرفة له، كلهم من حديث والبيهقي -رضي الله عنه- رفعه: أبي هريرة "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".
قال العراقي وغيره: سنده صحيح، أي: يقيض لها على رأس كل مائة من الهجرة أو غيرها رجلا كان أو أكثر من يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم، وينصر أهله، ويذل أهل البدعة، قالوا: ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة .
فكان في المائة الأولى والثانية عمر بن عبد العزيز، والثالثة الشافعي، أو الأشعري والرابعة ابن سريج، الإسفراييني أو الصعلوكي أو والخامسة الباقلاني، حجة الإسلام الغزالي.
وقال ابن السبكي: يتعين عندي تقديم في الثالثة على ابن سريج فإن الأشعري؛ وإن كان أيضا شافعي المذهب إلا أنه رجل متكلم، كان قيامه للذب عن أصول العقائد دون فروعها، وكان الأشعري فقيها، وقيامه الذب عن فروع هذا المذهب، فكان أولى بهذه المرتبة، لا سيما ووفاة الأشعري تأخرت عن رأس القرن إلى بعد العشرين . ابن سريج
وقد صح أن هذا الحديث ذكر في مجلس فقام شيخ من أهل العلم فقال: أبشر أيها القاضي بأن الله بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وعلى الثانية الشافعي، وبعثك على رأس الثلاثمائة، ثم أنشأ يقول: ابن سريج
اثنان قد مضيا فبورك فيهما عمر الخليفة ثم حلف السؤدد الشافعي الألمعي محمد
إرث النبوة وابن عم محمد أرجو أبا العباس أنك ثالث
من بعدهم سقيا لتربة أحمد
قال: وأما الرابعة فقد قيل: إن الشيخ أبا حامد الإسفراييني هو المبعوث فيها، وقيل: بل الأستاذ سهل الصعلوكي، وقد كان ممن لا يدفع عن هذا المقام بوجه يتضح؛ لمشاركة الشيخ أبي حامد في الفقه، وقرب الوفاة من رأس المائة بخلاف الأشعري مع ابن سريج.
قال: والخامس وقد قال في قصيدة نظمها في أسمائهم: الغزالي،
والخامس الحبر الإمام محمد هو حجة الإسلام دون تردد
والخامس الحبر هو الغزالي وعده ما فيه من جدال
والشرط في ذلك أن تمضي المائة وهو على حياته بين الفئة
يشار بالعلم إلى مقامه وينصر السنة في كلامه
وأن يكون جامعا لكل فن وأن يعم علمه أهل الزمن
وأن يكون في حديث قد روي من أهل بيت المصطفى وقد قوي
وكونه فردا هو المشهور قد نطق الحديث والجمهور
قال الذهبي: من هنا للجمع لا للمفرد، فتقول مثلا: على رأس الثلاثمائة في الفقه، ابن سريج في الأصول، والأشعري في الحديث . والنسائي
وقال في جامع الأصول: قد تكلموا في [ ص: 27 ] تأويل هذا الحديث، فكل أشار إلى العالم الذي هو في مذهبه، وحمل الحديث عليه، والأولى العموم؛ فإن "من" يقع على الواحد والجمع، ولا يختص أيضا بالفقهاء، فإن انتفاع الأمة أيضا يكون بأولي الأمر، وأهل الحديث، والقراء، والوعاظ، لكن المبعوث ينبغي أن يكون مشارا إليه في كل من هذه الفنون .
ففي رأس الأولى من أولي الأمر ومن الفقهاء عمر بن عبد العزيز، محمد الباقر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، والحسن، ومن القراء وابن سيرين، ابن كثير، ومن المحدثين الزهري.
وفي رأس الثانية من أولي الأمر المأمون، ومن الفقهاء الشافعي، واللؤلؤي من الحنفية، وأشهب من المالكية، وعلي بن موسى الرضي من الإمامية، والحضرمي من القراء، وابن معين من المحدثين، والكرخي من الزهاد .
وفي الثالثة من أولي الأمر المقتدر، ومن الفقهاء ومن الحنفية ابن سريج، ومن المتكلمين الطحاوي، ومن المحدثين الأشعري، النسائي.
وفي الرابعة من أولي الأمر القادر بالله، ومن الفقهاء الإسفراييني، ومن الحنفية الخوارزمي، ومن المالكية عبد الوهاب، ومن الحنابلة الحسين الفراء، ومن المتكلمين الباقلاني ومن المحدثين وابن فورك، ومن الزهاد الحاكم، الدينوري.
وهكذا يقال في بقية القرون، وفي كلام النووي ما يشير إلى ذلك، وأيده الحافظ ابن حجر في الفتح، وقال: كل من اتصف بشيء من تلك الأوصاف عند رأس المائة هو المراد، تعدد أم لا، والبحث في هذا المقام يستدعي لذكر مهمات، ولكن اقتصرنا على المقصود منه .