الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فما من علم إلا وله اقتصار واقتصاد واستقصاء .

ونحن نشير إليها في الحديث والتفسير والفقه والكلام لتقيس بها غيرها .

فالاقتصار في التفسير ما يبلغ ضعف القرآن في المقدار كما صنفه علي الواحدي النيسابوري وهو الوجيز والاقتصاد ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن كما صنفه من الوسيط فيه وما وراء ذلك استقصاء مستغنى عنه فلا مرد له إلى انتهاء العمر .

وأما الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما في الصحيحين بتصحيح نسخة على رجل خبير بعلم متن الحديث .

وأما حفظ أسامي الرجال فقد كفيت فيه بما تحمله عنك من قبلك ولك أن تعول على كتبهم وليس يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلا تقدر منه على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة وأما الاقتصاد فيه فأن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما ورد في المسندات الصحيحة .

وأما الاستقصاء فما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما نقل من الضعيف والقوي والصحيح والسقيم مع معرفة الطرق الكثيرة في النقل ومعرفة أحوال الرجال وأسمائهم وأوصافهم .

وأما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر المزني رحمه الله وهو الذي رتبناه في خلاصة المختصر والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة أمثاله وهو القدر الذي أوردناه في الوسيط من المذهب والاستقصاء ما أوردناه في البسيط إلى ما وراء ذلك من المطولات .

التالي السابق


(فما من علم إلا وله) ثلاث مراتب (اقتصار واقتصاد واستقصاء) وفي الأولين جناس محرف (ونحن نشير إليها) أي إلى تلك المراتب (في الحديث والتفسير والفقه والكلام) ذكر الثلاثة الأول لشرفها وذكر علم الكلام لشهرته أو نظرا إلى الأصل باعتبار الموضوع وهو أشرف من علم الفقه (ليعبر بها عن غيرها) وفي بعض النسخ: لتقيس بها غيرها (فالاقتصار في) علم (التفسير) تحصيل (ما يبلغ ضعف القرآن في المقدار) وفي بعض النسخ: ما يبلغ [ ص: 272 ] في المقدار ضعف القرآن وفي أخرى نصف القرآن وهو خطأ (كما صنفه) الشيخ الإمام أبو الحسن (علي) بن أحمد بن محمد بن علي (الواحدي) المفسر (النيسابوري) أصله من ساوة كان واحد عصره في التفسير لازم أبا إسحاق الثعلبي المفسر وأخذ العربية عن أبي الحسن القهنوزي الضرير واللغة عن أبي الفضل العروضي، صاحب الأزهري وسمع الحديث من أبي محمش الزيادي وأبي بكر الحيري وخلق روى عنه أحمد بن عمر الأرغياني وعبد الجبار بن محمد الخواري وآخرون، صنف التصانيف الثلاثة في التفسير البسيط والوسيط والوجيز، وأسباب النزول والتبحير في شرح الأسماء الحسنى وشرح ديوان المتنبي وكتاب الدعوات وكتاب المغازي وكتاب الإعراب في الإعراب وكتاب تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتاب نفي التحريف عن القرآن الشريف، توفي بنيسابور في جمادى الأخيرة سنة 468 (وهو الوجيز) أحد كتبه الثلاثة وعلى نمطه تفسير الجلالين (والاقتصاد) فيه (ما يبلغ ثلاثة أضعاف) وفي نسخة: أرباع (القرآن) في المقدار (كما صنفه من الوسيط فيه) وهو الكتاب الثاني من كتبه وعلى أسماء هذه الكتب الثلاثة سمى المصنف كتبه الثلاثة في الفقه، كما سيأتي بيانها (وما وراء ذلك استقصاء مستغنى عنه ولا مرد له إلا انتهاء العمر) وفي نسخة: إلى آخر العمر وهذا الذي ذكره بالنظر إلى زمانه، وأما الآن فلا يعرف من تلك الكتب شيء فالاقتصار الآن فيه تفسير الجلالين والتوسط فيه تفسير الخطيب الشربيني وتفسير ملا علي، ومن أراد الزيادة فيه فتفسير أبي السعود والمدارك للنسفي وتفسير القاضي البيضاوي.

(وأما) علم (الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما في الصحيحين) صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن برذزبه الجعفي مولاهم البخاري وصحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري -رحمها الله تعالى- ويعرفان بالصحيحين لاتفاق الأمة على قبول ما فيهما (بتصحيح نسخة) منهما (على رجل) من الحفاظ أو المحدثين (يعلم متن الحديث) على أحد رواة الكتابين أما البخاري فاتصلت رواية كتابه من طريق المستملي والسرخسي والكشميهني وابن علي بن السكن والأخسيكني وأبي زيد المروزي وأبي علي بن شبويه وأبي أحمد الجرجاني والكشاني وهو آخر من حدث عن الفربري بالصحيح، وأما مسلم فالمشهور من رواة كتابه إبراهيم بن سفيان الزاهد، ورواه عنه أيضا مكي بن عبدان وأبو حامد بن الشرقي وأبو محمد القلانسي (وأما حفظ أسامي الرجال) المذكورة فيهما (فقد كفيت فيه ما تحمله غيرك) وفي بعض النسخ: فقد يكفيك فيه ما حمله عنك (من قبلك) كأبي طاهر المقدسي وغيره ممن صنف في أسماء رجالهما (ولك أن تعول) وتعتمد (على كتبهم) في المراجعة عند الاشتباه (وليس يلزمك) أيضا (حفظ متون الصحيحين) على ظهر قلبك (ولكن) المطلوب ( أن تحصله تحصيلا تقدر) به ( على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة) وهو في كتاب مسلم أسهل من كتاب البخاري لتفريقه الحديث الواحد في مواضع شتى (وأما الاقتصاد فيه فأن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما أورد في المسندات الصحيحة) وفي نسخة: في مسندات الصحيح أي كبقية السنن الأربعة والمستخرج عليهما للحافظ أبي نعيم وللإسماعيلي ولابن منده (وأما الاستقصاء) فيه (فيما وراء ذلك إلى استيفاء) وفي نسخة: إلى استيعاب (كل ما نقل من الضعيف والقوي والصحيح والسقيم) والمتواتر والمشهور والحسن والصالح والمضعف والمرفوع والمسند والموقوف والموصول والمرسل والمقطوع والمعضل والمعلق والغريب والمعلل والعالي والنازل (مع معرفة للطرق الكثيرة) للحديث الواحد (في النقل ومعرفة أحوال الرجال) جرحا وتعديلا (و) معرفة (أسمائهم) وكناهم وبلدانهم (وأوصافهم) فكل ذلك داخل في حد الاستقصاء وبما ذكره المصنف من حد الاقتصار والاقتصاد لا يسمى المشتغل بهما محدثا فقد قال ابن السبكي: في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم" المحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند الإمام أحمد وسنن البيهقي ومعجم [ ص: 273 ] الطبراني وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية كان هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والأسانيد عد في أول درجات المحدثين ثم يزيد الله تعالى من شاء ما شاء. اهـ .

قال السخاوي في الجواهر والدرر: والمقتصر على السماع لا يسمى محدثا، ويروى عن مالك أن المقتصر على السماع لا يؤخذ عنه العلم وقال الإمام أبو شامة: علوم الحديث الآن ثلاثة أشرفها حفظ متونه ومعرفة غريبها وفقهها.

والثاني: حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها وهذا كان مهما وقد كفيه المشتغل بالعلم بما صنف وألف في ذلك فلا فائدة تدعو إلى تحصيل ما هو حاصل .

الثالث: جمعه وكتابته وسماعه وتطريفه وطلب العلو فيه والرحلة بسببه إلى البلدان والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من علومه النافعة فضلا عن العمل فيه الذي هو المطلوب الأول. اهـ .

قال الحافظ ابن حجر: وهذا في بعضه نظر؛ لأن قوله وهذا قد كفيه المشتغل بالعلم بما صنف فيه قد أنكره العلامة أبو جعفر بن الزبير وغيره. ويقال عليه: إن كان التصنيف في الفن يوجب الاتكال على ذلك وعدم الاشتغال به فالقول كذلك في الفن الأول فإن فقه الحديث وغريبه لا يحصى كم صنف فيه بل لو ادعى مدع أن التصانيف التي جمعت في ذلك أجمع من التصانيف التي جمعت في تميز الرجال وكذا في تميز الصحيح من السقيم لما أبعد بل ذلك هو الواقع، فإن كان الاشتغال بالأول مهما فالاشتغال بالثاني أهم إلى آخر ما قاله، وسيجيء لنا بحث إن شاء الله تعالى في ذم غرور المحدثين وتوسع الكلام هناك .

(وأما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر) الإمام أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن عمر بن إسحاق (المزني) ولد سنة 175 وحدث عن الشافعي ونعيم بن حماد وغيرهما روى عنه خزيمة والطحاوي وزكريا وأبو الساجي وابن جوصاء وابن أبي حاتم، قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي ومن تأليفه هذا المختصر، والجامع الكبير، والجامع الصغير، والمنثور، والمسائل المفيدة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق، وكتاب نهاية الاختصار، وتوفي لست بقين من رمضان سنة 264 ومختصره هذا أكثر الكتب المتداولة السائرة في كل الأمصار على ما ذكره النووي في التهذيب وقد شرحه كثير من العلماء كابن سريج وأبي الطيب الطبري وأبي الفتوح بن عيسى، وأبي إسحاق المروزي وأبي حامد المروزي وابن سراقة وأبي عبد الله المسعودي وأبي علي الطبري وأبي بكر الشاشي وأبي علي السبخي وابن عدلان والشرف يحيى المناوي وزكريا الأنصاري وغيرهم (وهو الذي رتبناه في) كتابنا المسمى (خلاصة المختصر) وهو مفيد جدا ملخص من أصله مع زيادات نافعة ويسمى خلاصة الوسائل إلى علم المسائل كما تقدم وهو غير عنقود المختصر ونقاوة المقتصر للمصنف أيضا (والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة أمثاله) في المقدار (وهو القدر الذي أوردناه في) كتابنا (الوسيط من المذهب) وهو ملخص من بسيطه مع زيادات، وأحد الكتب الخمس المتداولة بين الشافعية ذكره النووي في تهذيبه وقد شرحه تلميذه الخبوشاني وسماه المحيط في ستة عشر مجلدا وابن الرفعة في ستين مجلدا سماه البحر المحيط والموفق الحموي سماه منتهى الغايات والظهير الترمنتي ومحمد بن عبد الحاكم والعز المدلجي وأبو الفتوح العجلي وابن أبي الدم وابن الصلاح على الربع الأول في جزأين وابن الأستاذ في أربع مجلدات ويحيى بن أبي الخير اليمني وغير هؤلاء وخرج أحاديثه السراج بن الملقن في مجلد (والاستقصاء) فيه (ما أوردناه في) كتابنا المسمى (البسيط) وهو كالمختصر لنهاية المطلب في رواية المذهب لشيخه إمام الحرمين الذي جمعها بمكة وأتمها بنيسابور قال ابن خلكان في حق النهاية ما صنف في الإسلام مثله (إلى ما وراء ذلك من التطويلات) وقال ابن ساعد في إرشاد القاصد من كتب الشافعية المختصرة: التعجيز والتنبيه والتحرير ومختصر الوسيط للبيضاوي ومن المتوسطة المهذب والوسيط والروضة للنواوي ومن المبسوطة الحاوي للماوردي والكافي والوافي والبسيط وبحر المهذب والنهاية وشرح الوجيز ومن كتب الحنفية [ ص: 274 ] المختصرة: البداية والنافع ومختار الفتوى ومختصر القدوري وله تكملة مهمة، ومن المتوسطة الهداية والمشتملة ومن المبسوطة المحيط والمبسوط والتحرير .

ومن كتب المالكية المختصرة: التلقين والجلاب ومختصر ابن الحاجب ومن المتوسطة نظم الدر للشارمساحي والتهذيب، ومن المبسوطة الذخيرة وابن يونس والبيان والتحصيل .

ومن كتب الحنابلة المختصرة: العمدة والنهاية الصغرى لابن رزين، ومن المتوسطة: المقنع والكافي، ومن المبسوطة المغني لابن قدامة.اهـ.

وهذا الذي ذكره المصنف بالنظر إلى زمانهم فأما الآن فالاعتماد في مذهب الشافعي من الكتب المختصرة على مختصر أبي شجاع وشروحه ومتن الزبد وشروحه والإرشاد لابن المقري، ومن المتوسطة على الروض والمنهج كلاهما لشيخ الإسلام زكريا وعلى شرح الأخير للرملي ولابن حجر، فالأول عليه اعتماد المصريين وعلى الثاني اعتماد الحرمين وفي مذهب أبي حنيفة من الكتب المختصرة على الكنز للنسفي والملتقى لابن نجيح وشروحهما والمقدمة وشروحها .

وفي مذهب مالك من المختصرة على رسالة ابن تركي ومختصر خليل وشروحهما، وفي مذهب سيدنا أحمد من المختصرة على دليل الطالب للشيخ مرعي الحنبلي والإقناع وغيرهما، وهذا كله يختلف باختلاف البلدان في المذاهب، فرب كتاب يكون كثير الاستعمال والانتفاع في بلد لم يشتهر في بلد وهذا ظاهر ثم إن المقتصر على ما ذكر وكذا المقتصد لا يكون فقيها كما أن المقتصد على سماع الصحيحين لا يسمى محدثا فقد قال ابن السبكي: إن المقتصر على ما عليه الفتيا هو المضيع للفقه فإن المرء إذا لم يعرف الخلاف والمآخذ لا يكون فقيها إلى أن يلج الجمل في سم الخياط، وإنما يكون رجلا ناقلا نقلا محيطا حامل فقه إلى غيره لا قدرة له على تخريج حادث بموجود ولا قياس مستقبل بحاضر ولا إلحاق شاهد بغائب وما أسرع الخطأ إليه وأكثر تزاحم الغلط عليه وأبعد الفقه لديه. اهـ .




الخدمات العلمية