الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال بعض الأدباء : إذا دعوت إخوانك فأطعمتهم حصرمية وبورانية وسقيتهم ماء باردا فقد أكملت الضيافة .

وأنفق بعضهم دراهم في ضيافة فقال بعض الحكماء : لم نكن نحتاج إلى هذا إذا كان خبزك جيدا وماؤك باردا وخلك حامضا فهو كفاية .

وقال بعضهم : الحلاوة بعد الطعام خير من كثرة الألوان والتمكن على المائدة خير من زيادة لونين .

ويقال أن : الملائكة تحضر المائدة إذا كان عليها بقل فذلك أيضا مستحب ولما فيه من التزين بالخضرة .

وفي الخبر : إن المائدة التي أنزلت على بني إسرائيل كان عليها من كل البقول إلا الكراث .

وكان عليها سمكة عند رأسها خل وعند ذنبها ملح وسبعة أرغفة على كل رغيف زيتون وحب رمان فهذا إذا اجتمع حسن للموافقة .

التالي السابق


فالذي تلخص هنا من معاني الطيبات تقديم الفاكهة أولا، ثم اللحم وخيره السمين، وخير اللحم السمين ما كان نضيجا قد أجيد طبخه بتوابل، ثم الماء البارد وحده أو مخلوط بعسل أو سكر، أو نقع فيه الزبيب، ثم الحلاوة، ثم غسل اليد بالماء الفاتر، فكل ذلك داخل في حد الطيبات .

(وقال بعض الأدباء: إذا دعوت إخوانك فأطعمهم حصرمية) نوع من الطعام يعمل بالحصرم بارد نافع للصفراء والدم ممسك للبطن، إلا أنه يولد رياحا في الأمعاء والمعدة لأنه من ثمرة فجة لم تنضج (وبورانية) نوع من الطعام عمل لبوران بنت سهل وزير المأمون، فنسب إليها (وسقيتهم ماء باردا فقد أكملت الضيافة) نقله صاحب "القوت " (وأنفق بعضهم دراهم) كثيرة (في ضيافة) ولفظ " القوت ": ودعا بعض الرؤساء إخوانه، وأنفق عليهم مائتي درهم (فقال) له (بعض الحكماء: لم يكن يحتاج إلى هذا) كله (إذا كان خبزك جيدا) بأن كان نظيفا قد ملك عجينه وأجيد نضجه في تنور ظاهرا وباطنا، (وخلك حامضا) أي: صادق الحموضة غير متغير الطعم، (وماؤك باردا) عذبا (فهو كفاية) نقله صاحب "القوت " والخبز وحده فاكهة إذا كان جيدا، ولا ينتظر به الإدام إلا ما كان المتيسر من خل أو بقل أو ملح .

(وقال بعضهم: الحلاوة بعد الطعام خير من كثرة الألوان) والمراد ما يعمل من السكر الأبيض واللوز وهو المعروف بهريسة اللوز، ويليه الحلاوة المصرية المعروفة بالطحينية، وللفقراء الزبيب والتمر (والتمكن على المائدة [ ص: 256 ] خير من زيادة لونين) نقله صاحب "القوت " بلفظ: خير من الزيادة على لونين، وأما معنى التمكن فسيأتي للمصنف قريبا، وقال آخر: شرب الماء البارد على الطعام خير من زيادة ألوان (ويقال: إن الملائكة تحضر المائدة إذا كان عليها بقل) نقله صاحب "القوت "، والبقل كل نبات اخضرت به الأرض، والبقول التي تحضر على المائدة هي الخس الهندبا الطرخشقوق الحماض البقلة الحمقاء البادروج النعناع الصعتر الفوتنج الرشاد الكرفس الكزبرة البصل الثوم الكراث الفجل الشبت الجزر السنداب، وجملة القول فيها أن البقول كلها لا ينال البدن منها إلا أقل ما يكون من الغذاء، والذي لا ينال منها مائي رقيق رديء يقل الانتفاع به لا يكاد ينهضم ما يتناول منها غير مطبوخ، وذلك أنها قد عدمت في طباعها النضج والبلوغ بل توجد فجة من أول نبتها إلى أن تجف، فلأنها تكون في أول نبتها ألطف وأطرى ثم تصير بآخرة أصلب وأعصى، وكذلك أصول النباتات كلها رديئة الغذاء، وجميع النباتات الحريفة التي تؤكل فإنها ما دامت طرية في النشو تكون ناقصة القوى لكثرة ما فيها من الرطوبة، فلذلك قد تصير غذاء، وإذا يبست اشتدت كيفياتها وانقلبت عن أن تكون غذاء، وصارت دواء لا يصلح إلا لتطييب الطعام، ومن البقول ما أصله أقوى من قضبانه كالفجل والبصل والثلجم وما أشبهها، ومنها ما قضبانه وورقه أقوى من أصله لاستلابها الغذاء الذي اجتلبته من الأرض إلى نفسها كالخس والكرنب، وما يؤكل منه أصله فبزره وقضبانه لا يكاد يؤكل، وكل نبات يؤكل ثمره أو بزره لا يكاد يؤكل أصله، وجميع أصناف البقول ما كان منها بريا فهو أشد يبسا، ولذلك يكون أردأ غذاء وأشبه بالدواء، وما كان منها بستانيا فهو أكثر رطوبة وما بنيت في المشرقة والمواضع العطشة أقوى في بابه، ولما كانت البقول أقرب إلى الرداء من الفواكه والثمار كثيرا فينبغي أن يتناول منها ما تدعو إليه الشهوة شيء قليل، ويتحرى أن يكون مما يحمد منها ويناسب المزاج والحال والوقت الحاضر. والله أعلم .

(ولما فيه من التزين بالخضرة) وهو محبوب (وفي الخبر: إن المائدة التي أنزلت على بني إسرائيل كان عليها من كل البقول إلا الكراث) وهو أنواع، والمراد به هنا هو النبطي، ويعرف بكراث المائدة، وهو نبت دقيق جدا يخرج من تحت الأرض ورقا ثلاثا، وما تحت الأرض من أصوله أبيض مستطيل غير مستدير، (وكان عليها سمكة وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح و) كان عليها (سبعة أرغفة على كل رغيف زيتون وحب رمان) هكذا ساقه صاحب "القوت "، (فهذا إذا جمع فحسن الموافقة) ولفظ " القوت ": فهذا من أحسن الطعام إذا اتفق، اهـ. وأخرجه الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات من حديث سلمان الفارسي قال: لما سأل الحواريون عيسى بن مريم المائدة كره ذلك جدا، ومنعهم عن سؤالهم إياها، ووعظهم فأبوا، فلما رأى منهم ذلك قام فلبس الشعر الأسود ثم اغتسل، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله، ثم قام مستقبل القبلة، وصف قدميه حتى استويتا، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا، ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه فلما رأى ذلك دعا الله فأنزل عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي ويعود ويتضرع فما زال كذلك حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى، والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخر عيسى والحواريون سجدا شكرا له، ثم أقبلوا عليها فإذا عليها منديل مغطى فسمى الله تعالى وكشف عنها المنديل، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها سيلا، حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذيلها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتونة، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر خمس رمانات... الحديث.

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس، في خبر المائدة قال: فأقبلت الملائكة [ ص: 257 ] تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.

وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: نزلت المائدة عليها من ثمر الجنة.

وروى أيضا ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: مائدة من السماء أي: خبزا وسمكا. وروى أيضا في الكتاب المذكور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة: أن الخبز الذي أنزله الله مع المائدة من أرز .

وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: أنزلت المائدة خوان عليه خبز وسمك.

وروى ابن جرير عن إسحاق بن عبد الله أن المائدة نزلت وعليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات يأكلون منها ما شاءوا. وروى عبد بن حميد وابن الأنباري وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: أنزل على المائدة كل شيء إلا اللحم، والمائدة الخوان.




الخدمات العلمية