الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والجنين في البطن وعسب الفحل وكذلك بيع الصوف على ظهر الحيوان ، واللبن في الضرع ، لا يجوز ، فإنه يتعذر تسليمه لاختلاط غير المبيع بالمبيع

التالي السابق


ثم قال المصنف: (والجنين في البطن) ; لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه; ولأن فيه غررا، وقد نهي عن بيع الغرر، والغرر: ما يكون مجهول العاقبة، يدري، أيكون، أم لا .

وعن أبي هريرة: أنه نهي عن بيع الملاقيح، والمضامين. رواه البزار، بإسناد ضعيف، ورواه مالك في الموطأ، عن سعيد بن المسيب، مرسلا. والملاقيح: ما في بطون الأمهات من الأجنة. والمضامين: ما في أصلاب الفحول .

(وعسيب الفحل) ; لما روي النهي عنه، وقد عسب الفحل الناقة، عسبا، من باب ضرب، طرقها، وعسبت الرجل، عسبا، أعطيته الكراء على الضراب، وفي الحديث حذف مضاف، والأصل عن كراء عسب الفحل; لأن ثمرته المقصودة غير معلومة، فإنه قد لا يلقح، فهو غرر، وقيل: المراد: الضراب نفسه، وهو ضعيف; لأن تناسل الحيوان مطلوب لذاته، لمصالح العباد، فلا يكون النهي لذاته دفعا للتناقض، بل لأمر خارج، كذا في المصباح، وذكر الرافعي في باب الفساد من جهة النهي: أن كل فاسد منهي عنه، إما نهي خاص، أو نهي عام، ثم ما ورد فيه النهي من البيوع، قد يحكم بفساده قضية للنهي، وهو الأغلب، وقد لا يحكم، وهو بحيث يفارق البيع، ما يعرف عود النهي إليه، كالمنع من البيع حالة النداء للجمعة، وما حكم فيه بالفساد على أنواع: منها: ما روي أنه نهي عن ثمن عسب الفحل، وهذا رواية الشافعي في المختصر، قال في الصحاح: العسب: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، وعسب الفحل أيضا: ضرابه، ويقال: ماؤه، فهذه ثلاث معان، والثالث هو الذي أطلقه في الوجيز، والثاني هو المشهور في الفقهيات ثم ليس المراد في الخبر في الرواية الأولى، الضراب، فإن نفس الضراب لا يتعلق به نهي، ولا منع من الإنزاء أيضا، بل الإعارة للضراب محبوبة، ولكن الثمن المذكور في الرواية الثانية، مضمر فيه، هكذا قالوه، ويجوز أن يحمل العسب على الكراء، على ما هو أحد المعاني، فيكون نهيا عن إجارة الفحل للضراب، ويستغنى عن الإضمار، فأما على الرواية الثانية: [ ص: 433 ] فالمفسرون للعسيب بالضراب، ذكروا أن المراد من الثمن الكراء، وقد يسمى الكراء ثمنا مجازا، ويجوز أن يفسر العسيب بالماء، ويقال: هذا كفى عن بيعه، والحاصل: أن بذل المال للضراب ممتنع بطريق البيع; لأن ماءه غير متقوم، ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه، وأما بطريق الاستئجار ففيه قولان: أصحهما: المنع أيضا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد; لأن فعل الضراب غير مقدور عليه للمالك، بل يتعلق باختيار الفحل. والثاني، وبه قال ابن أبي هريرة، ويحكى عن مالك: أنه يجوز ،كالاستئجار لتلقيح النخل، ويجوز أن يعطي صاحب الأنثى صاحب الفحل شيئا على سبيل الهدية، خلافا لأحمد، والله أعلم .

(وكذلك بيع الصوف على ظهر الحيوان، واللبن في الضرع، لا يجوز، فإنه يتعذر تسليمه لاختلاط غير المبيع بالمبيع) ; لما روي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع، وهما جملتان منهي عنهما، أما الصوف على الظهر، فيقال أيضا: إن مطلق اللفظ يتناول جميع ما على ظهر الجلد، ولا يمكن استيعابه إلا بإيلام الحيوان، وإن شرط الجز فالعادة في المقدار المجزوز تختلف، وبيع المجهول لا يجوز، وعن مالك: أنه يجوز، بشرط الجز، وحكاه ابن كج وجها لبعض الأصحاب .

ويجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان بعد الذكاة; إذ ليس في استيفاء جميعها إيلام، وقال أصحابنا في تعليل عدم جواز بيع الصوف على ظهر الغنم: أنه قبل الجز ليس بمال متقوم في نفسه; لأنه بمنزلة وصف الحيوان; لقيامه كسائر أطرافه; ولأنه يزيد من الأسفل، فيختلط المبيع بغيره، بخلاف القوائم; لأنها تزيد من أعلاها، ويعرف ذلك بالخضاب، وبخلاف القصيل; لأنه يقلع، والصوف يقطع، فيتنازعان في موضعه. وعن أبي يوسف: يجوز بيعه; لأنه مال متقوم، منتفع به، مقدور التسليم، كسائر الأموال. اهـ .

وأما بيع اللبن في الضرع فإنه باطل أيضا، كما مر. وعن مالك: أنه إذا عرف قدر حلابها في كل دفعة، صح، وإن باعه أياما، والحديث حجة عليه; ولأنه مجهول القدر; لتفاوت ثخن الضرع; ولأنه يزداد شيئا فشيئا، سيما إذا أخذ في الحلب، وما يحدث ليس من المبيع، فلا يتأتى التمييز، والتسليم .

ولو قال: بعتك من اللبن الذي في ضرع هذه البقرة كذا، لم يجز أيضا، على الصحيح; لأن وجود القدر المذكور في الضرع، لا يستيقن، وفيه وجه: أنه كما لو باع قدرا من اللبن في الضرع، فيجري فيه قولا بيع الغائب .

ولو حلب شيئا من اللبن، فأراه، ثم باعه مدا مما في الضرع، فقد نقلوا فيه وجهين، كما في مسألة الأنموذج، قال الإمام: وهذا لا ينقدح إذا كان المبيع قدرا لا ينافي حلبه إلا ويتزايد اللبن، فإن المانع قائم والحالة هذه، فلا ينفع إبداء الأنموذج، نعم، لو كان المبيع يسيرا، وابتدر إلى الحلب، فلا يفرض والحالة هذه، فلا ينفع ازدياد شيء به مبالاة، فيحتمل التجويز، لكن إذا صورنا الأمر هكذا، فلا حاجة إلى الأنموذج، في التخريج على الخلاف، بل صار صائرون إلى إلحاقه ببيع الغائب، وآخرون حسموا الباب، وألحقوا القليل بالكثير، والمصنف في الوسيط حكى الخلاف في صورة أخرى، تناسب هذه، وهو: أن يقبض على قدر رمي الضرع، ويحكم شده، ويبيع ما فيه، والله أعلم .

واستدل أصحابنا في هذه المسألة: بما روي أنه صلى الله عليه وسلم، نهى أن يباع ثمر حتى يطعم، وصوف على ظهر، ولبن في ضرع، أو سمن في لبن. أخرجه الدارقطني; ولأنه يدر ساعة فساعة، فيختلط المبيع بغير المبيع; ولأنهم يختلفون في كيفية الحلب، فيؤدي إلى النزاع; ولأنه يحتمل أن يكون انتفاخا، وليس فيه لبن، والله أعلم .




الخدمات العلمية