الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الثاني هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل : إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو أيضا صحيح في نفسه ; لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلا ظاهر ، وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال : لا موجود إلا هذه العلوم .

الثالث علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال فإن من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال : إنه عاقل في العادة ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال : إنه غبي غمر جاهل فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا .

الرابع أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها عاقلا من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة وهذه أيضا من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان فالأول هو الأس والسنخ والمنبع .

والثاني هو الفرع الأقرب إليه والثالث فرع الأول والثاني إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب .

والرابع هو الثمرة الأخيرة وهو الغاية القصوى فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب .

ولذلك قال علي كرم الله وجهه .

رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس ، وضوء العين ممنوع والأول هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : ما خلق الله عز وجل خلقا أكرم عليه من العقل والأخير هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إذا تقرب الناس بأبواب البر والأعمال الصالحة فتقرب أنت بعقلك وهو المراد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء رضي الله عنه ازدد عقلا تزدد من ربك قربا فقال : بأبي أنت وأمي وكيف لي بذلك ؟ فقال : اجتنب محارم الله تعالى وأد فرائض الله سبحانه تكن عاقلا ، واعمل بالصالحات من الأعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنل في آجل العقبى بها من ربك عز وجل القرب والعز .

وعن سعيد بن المسيب أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة رضي الله عنهم دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، من أعلم الناس فقال صلى الله عليه وسلم : العاقل قالوا فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل. قالوا: فمن أفضل الناس قال ؟ : العاقل قالوا أليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته فقال صلى الله عليه وسلم وإن : كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين إن العاقل هو المتقي وإن كان في الدنيا خسيسا ذليلا قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر إنما العاقل من آمن بالله وصدق رسله وعمل بطاعته ويشبه أن يكون أصل الاسم في أصل اللغة لتلك الغريزة وكذلك في الاستعمال وإنما أطلق على العلوم من حيث إنها ثمرتها كما يعرف الشيء بثمرته فيقال العلم هو الخشية والعالم من يخشى الله تعالى ; فإن الخشية ثمرة العلم فتكون كالمجاز لغير تلك الغريزة ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة .

والمقصود أن هذه الأقسام الأربعة موجودة والاسم يطلق على جميعها ولا خلاف في وجود جميعها إلا في القسم الأول والصحيح وجودها بل هي الأصل .

وهذه العلوم كأنها مضمنة في تلك الغريزة بالفطرة ولكن تظهر في الوجود إذا جرى سبب يخرجها إلى الوجود حتى كأن هذه العلوم ليست بشيء وارد عليها من خارج وكأنها كانت مستكنة فيها فظهرت ومثاله الماء في الأرض فإنه يظهر بحفر البئر ويجتمع ويتميز بالحس لا بأن يساق إليها شيء جديد وكذلك الدهن في اللوز وماء الورد في الورد ولذلك قال تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فالمراد به إقرار نفوسهم لا إقرار الألسنة فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة ، حيث وجدت الألسنة والأشخاص إلى مقر وإلى جاحد ولذلك قال تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله معناه إن اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم فطرت الله التي فطر الناس عليها أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله عز وجل بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك .

التالي السابق


(الثاني) من معاني العقل: (هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل) وهو الولد الصغير (المميز) يقال: يبقى عليه هذا الاسم حتى يميز، ثم لا يقال له بعد ذلك: طفل بل صبي، ونوزع بما في التهذيب أنه يقال له: طفل حتى يحتلم، (بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات) ، ووجوب الواجبات (كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين) مختلفين، (وهو الذي عناه بعض المتكلمين) ، وكأنه أشار بذلك إلى إمام الحرمين، (حيث قال في حد العقل: إنه بعض العلوم الضرورية) لا كلها، قال: والدليل على أنه من العلوم استحالة الاتصاف به مع تقدير الخلو من جميع العلوم، وليس العقل جميع العلوم الضرورية، فإن الضرير ومن لا يدرك يتصف بالعقل، مع انتفاء علوم ضرورية عنه فبان بهذا أن العقل من العلوم الضرورية، وليس كلها، كما تقدم ذلك نقلا عن الإرشاد، وقال فيه أيضا: إن العقل علوم ضرورية بها يتميز العاقل من غيره إذا اتصف (كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات) ووجوب الواجبات، (وهو أيضا صحيح في نفسه; لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلا ظاهرا، وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال: لا موجود إلا هذه العلوم الثالث) من معاني العقل: (علوم تستفاد) وتتحصل (من التجارب بمجاري الأحوال) وتصاريفها، (فإن من حنكته التجارب) أي فعلت به ما يفعل بالفرس إذا حنك حتى عاد مجربا مذللا، (وهذبته المذاهب) بالتقلب فيها، (يقال: إنه عاقل في العادة ومن لا يتصف به يقال: إنه غبي) من الغباوة وهي الغفلة، (غمر) بالضمر هو الجاهل فقوله (جاهل) بعد ذكر الغمر من العطف المترادف، (فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا) .

وهذا القسم الذي جعله المصنف ثالثا جعله الراغب في الذريعة ثانيا، فقال: ومستفاد وهو الذي تتقوى به تلك القوة، وهذا المستفاد ضربان: ضرب يحصل للإنسان حالا فحالا بلا اختيار منه، وضرب باختيار منه فيعرف كيف حصله ومن أين حصله، وحصوله بقدر اجتهاده في تحصيله، ويقال له: العلم الضروري، والعقل الغريزي للنفس بمنزلة البصر للجسد والمستفاد لها بمنزلة النور فكما أن الجسد متى لم يكن له بصر فهو أعمى، كذلك النفس متى لم [ ص: 461 ] يكن لها بصيرة أي عقل، غريزي فهي عمياء، وكما أن البصر متى لم يكن له نور من الحق لم يفد بصره كذلك النفس متى لم يكن لها نور من العلم مستفاد لم تجد بصيرتها اهـ .

(الرابع أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب تلك الأمور ويقمع الشهوات الداعية إلى) تحصيل (اللذة العاجلة) ، وهي الدنيوية (ويقهرها فإذا حصلت هذه القوة) في إنسان (سمي صاحبها عاقلا من حيث إن إقدامه وإحجامه) أي كفه (بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب) أي عواقب الأمور وسمي تدبيرا وهو من جملة توابع العقل، وقد سمي به مجازا، كما سيأتي قريبا .

(لا بحكم الشهوة العاجلة وهذه أيضا من خواص الإنسان التي يتميز بها عن الحيوان) وإليه يشير قول الشاعر:


ومن ترك العواقب مهملات فأكثر سعيه أبدا تبار

فهذه أربعة أقسام في العقل، وقسمه بعضهم من وجه آخر فقال: العقل هيولاني، وبالملكة وبالفعل ومستفاد فالعقل الهيولاني الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية عن الفعل، كما في الأطفال، وإنما نسب إلى الهيولى; لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولى الأولى الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها، والعقل بالملكة العلم، بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات، والعقل بالفعل أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث تحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد، والعقل المستفاد أن تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه اهـ .

وهو تفصيل حسن، (فالأول) من الأقسام (هو الأس) بتثليث الهمزة، (والسنح) بكسر السين المهملة، وسكون النون وآخره حاء مهملة وهو الأصل، (والمنبع) ; لأنه بمنزلة البصر من الجسد، والثاني من الأقسام، (هو الفرع الأقرب إليه) إذ بقوة الغريزة تدرك العلوم الضرورية .

(والثالث) من الأقسام (فرع الأول والثاني إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب والرابع) من الأقسام (هي التمرة الأخيرة وهي الغاية القصوى) ومن هنا قال: من قال في حقيقة الحق، إنه نور روحاني يقذف في القلب، أو الدماغ به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، فاقتصاره على هذا إنما هو نظرا إلى أنه الغاية، (فالأوليان) أي الغريزة والعلوم الضرورية (بالطبع) والجبلة فهو مبدع، (والأخريان) أي التجارب ومعرفة عواقب الأمور (بالاكتساب) فهو مكتسب، قال صاحب الذريعة: ولاختلاف النظرين، قال قوم: هو مبدع، وقال قوم: هو مكتسب، وكلا القولين صحيح من وجه وفاسد من وجه، (ولذلك) أي لكون العقل غريزيا ومستفادا (قال علي كرم الله وجهه) فيما أورده صاحب القوت والذريعة والفخر في أسرار التنزيل: (رأيت العقل) هكذا في نسخ الكتاب وفي الذريعة ثم العقل، وفي المفردات وأسرار التنزيل العقل (عقلين) ، وفي القوت: العلم علمان، بدل العقل عقلان .

(فمطبوع ومسموع) ولا ينفع مطبوع إذا لم يك مسموع (كما لا تنفع الشمس، وضوء العين ممنوع) وفي الذريعة: إذا لم يك مسموع كما لا ينفع ضوء الشمس، (والأول) أي العقل الغريزي المطبوع، (هو المراد) ولفظ الذريعة: فإلى الأول أشار (بقوله صلى الله عليه وسلم: ما خلق الله عز وجل خلقا أكرم عليه من العقل) .

قال العراقي: رواه الحكيم الترمذي في النوادر بإسناد ضعيف من رواية الحسن البصري، قال: حدثني عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا فيه أن الله تعالى قال: "ما خلقت خلقا أحب إلي منك، ولا أكرم علي منك"، الحديث، وقد تقدم في ثالث حديث الباب اهـ .

قلت: وأشار إلى أنه ضعيف لكون الترمذي المذكور رواه عن عبد الرحمن بن حبيب عن داود بن المحبر عن الحسن بن دينار، قال: سمعت الحسن، ورجاله ما عدا الحسن هلكى، وقد رواه داود أيضا في كتابه مرسلا، فقال: حدثنا صالح المري عن الحسن، فذكره، (والأخير) أي العقل المستفاد، (هو المراد بقوله) ولفظ الذريعة والمفردات وإلى الثاني أشار بقوله (صلى الله عليه [ ص: 462 ] وسلم) لعلي رضي الله عنه: (إذا تقرب الناس بأبواب البر فتقرب أنت بعقلك) ، ولفظ الذريعة: إذا تقرب الناس إلى خالقهم بالبر فتقرب إليه أنت بعقلك تسبقهم بالدرجات والزلفى عند الله في الدنيا والآخرة، اهـ .

وأخرج أبو نعيم بإسناد ضعيف من رواية عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا اكتسب الناس من أنواع البر ليتقربوا بها إلى ربنا عز وجل فاكتسب أنت أنواع العقل تسبقهم بالزلفة والقربة، وفي الجزء الثالث من أمالي أبي القاسم بن علي النيسابوري، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، أخبرنا محمد بن منصور العتكي، حدثنا محمد بن أشرس السلمي، حدثنا سليمان بن عيسى السنجري، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اكتسب الناس إلى خالقهم بأنواع البر فاكتسب إليه بأنواع العقل تسبقهم بالقربة والراحة والدرجات في الدنيا، (وهو المراد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء) رضي الله عنه فيما أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر فقال: حدثنا مهدي، حدثنا الحسن عن منصور عن موسى عن أبان عن لقمان بن عامر عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عويمر (ازدد عقلا تزدد قربا) ولفظ النوادر: حبا بدل قربا، (فقال: بأبي أنت وأمي وكيف لي بذلك؟) ولفظ النوادر: قلت: يا رسول الله من لي بالعقل؟ (فقال صلى الله عليه وسلم: اجتنب محارم الله) ولفظ النوادر: مساخط الله، (وأد فرائض الله تكن عاقلا، واعمل بالصالحات من الأعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنل بها من ربك القرب والعزة) ولفظ النوادر: ثم تنفل بالصالحات من الأعمال تزدد في الدنيا عقلا، ومن ربك قربا، وعليه عزا، قال العراقي: وأبان بن أبي عياش ضعيف، وقد رواه بسياق المصنف داود ابن المحبر في كتاب العقل، ومن طريقه رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده اهـ .

قلت: وأخرج البيهقي وابن عدي من حديث ابن مسعود رفعه: أد ما افترض الله عليك تكن من أعبد الناس، واجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس، وارض بما قسمه الله لك تكن من أغنى الناس، (و) روى داود بن المحبر في كتاب العقل، فقال: حدثنا ميسرة عن محمد بن زيد، (عن سعيد بن المسيب) بن حزن المخزومي من كبار التابعين (أن عمر) بن الخطاب (وأبي بن كعب وأبا هريرة رضي الله عنهم دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، من أعلم الناس فقال: العاقل) ولفظ داود قال: العاقل، (فقالوا) ولفظ داود قالوا: (من أعبد الناس؟ فقال: العاقل، قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، قالوا: ليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته) إشارة إلى الفضائل النفسية، وهذه الأربعة خيارها فتمام مروءة الإنسان جمال معنوي وحسن النطق جمال ظاهري، والسخاء من المتممات، ورفعة المنزلة عند الناس من الغايات، (فقال صلى الله عليه وسلم: إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) ولفظ داود بعد قوله: الحياة الدنيا إلى آخر الآية، (إن العاقل هو المتقي وإن كان في الدنيا خسيسا ذليلا) ولفظ داود: خسيسا قصيا .

قال العراقي: وقول المصنف عن ابن المسيب يريد أنه مرسل وهو كذلك، (وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر) رواه ابن المحبر في العقل، فقال: حدثنا عدي عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر فذكر زيادة في أوله، ثم قال: (إنما العاقل من آمن بالله وصدق رسله وعمل بطاعته) ولفظ داود: بطاعة الله عز وجل، وهو مرسل أيضا كالذي قبله، وفي الذريعة: قال رجل لمن وصف نصرانيا بالعقل: مه إنما العاقل من وحد الله وعمل بطاعته، (ويشبه أن يكون الاسم) أي اسم العقل، (في أصل اللغة لتلك الغريزة) التي تقدم وصفها، (وكذا في الاستعمال) الخاص والعام، (وإنما أطلق على العلوم) الضرورية كما ذهب إليه المتكلمون (من حيث إنها ثمرتها) ونتيجتها (كما يعرف الشيء بثمرته فيه ال) مثلا (العلم هو الخشية) ومعلوم أنه ليس بحد له حقيقة (و) إذا ثبت ذلك ثبت قولهم، (العالم [ ص: 463 ] من يخشى الله تعالى; فإن الخشية) وهو الخوف المشوب بتعظيم (ثمرة العلم) ونتيجته (فيكون كالمجاز) إذا أطلق (لغير تلك الغريزة) ، وإنما قال: كالمجاز، ولم يقل مجازا; لأنه أورده بحثا، ولذا قال في أوله: ويشبه وهذا بظاهره لا غبار عليه، إلا أنه خالف فيه سائر أئمة اللغة، وغالب المتكلمين فإنهم ما فسروه إلا بالعلم ولا أحد منهم جعل الغريزة أصلا في معناه حتى يكون إطلاقه على العلوم مجازا؛ ولذا أنكروا على المحاسبي مقالته المذكورة آنفا، (ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة) أشار بهذه إلى أنه خالفهم فيما أطبقوا عليه، (والمقصود أن هذه الأقسام الأربعة موجودة) كما عرفت (و) هذا (الاسم) أي اسم العقل، (يطلق على جميعها) إطلاقا صحيحا (إلا القسم الأول) أي الغريزة فمختلف فيه، (والصحيح وجودها) أي الغريزة، (بل هي الأصل) للأقسام الثلاثة، (وهذه العلوم كلها منضمة في تلك الغريزة) مركوزة فيها (بالفطرة) الأصلية، (ولكن تظهر في الوجود إذا جرى سبب) قوي (يخرجها) من أصل الفطرة، (إلى الوجود حتى كأن هذه العلوم ليست بشيء وارد عليها من خارج وكأنها كانت مستكنة) أي مختفية (فيها فظهرت) وبرزت (ومثاله) في الظاهر (الماء في الأرض فإنه) يختفي فيها وإنما (يظهر بحفر القني) بضم القاف وكسر النون وتشديد التحتية، جمع قناة وهي الجدول الصغير، (ويجتمع) مع بعضه (ويتميز) ذلك (بالحس) والمشاهدة، (لا بأن يساق إليه شيء جديد) من خارج (وكذلك الدهن) فإنه مستكن (في) قلب (اللوز) وهو ثمر شجر معروف، (وماء الورد) فإنه مستكن (في الورد) وإنما يخرجان منهما بسبب قوي في الإخراج، (ولذلك قال تعالى) في كتابه العزيز: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فالمراد به إقرار نفوسهم) المجردة عن الهياكل، (لا إقرار الألسنة فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة، حيث وجدت الألسنة والأشخاص) على قسمين فمنهم من بقي على إقراره الأصلي، من أول وهلة، ومنهم من راجع إقراره فيما بعد بتوفيق من الله تعالى، ومنهم من لم يقر مطلقا، فالإقرار ثابت بنص الآية، ولكن لا بالألسنة، وهذا الذي أورده المصنف، أشار به إلى ثمرة العقل، من معرفة الله الضرورية وغاية ما يبلغ إليه الإنسان من ذلك فأشرف ثمرة العقل معرفة الله سبحانه وتعالى، وحسن طاعته، والكف عن معصيته فمعرفة الله الضرورية مركوزة في النفس وهي معرفة كل أحد أنه مفعول وأن له فاعلا فعله ونقله من الأحوال المختلفة، وإليه أشار بقوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم الآية، فهذا القدر من المعرفة في نفس كل أحد وتنبيه الغافل عنه إذا تنبه عليه فيعرفه، كما يعرف أن من هو مساو لغيره، فذلك الغير مساو له، (ولذلك) أي من هذا الوجه، (قال تعالى: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ، وكذا قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم وقال في مخاطبة المؤمنين والكافرين: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم الآية (معناه إن اعتبرت أحوالهم) المختلفة (شهدت بها نفوسهم وبواطنهم) وإليه الإشارة بقوله تعالى: ( فطرت الله التي فطر الناس عليها ) وقوله: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة (أي كل آدمي فطر) وجبل (على الإيمان بالله عز وجل) والانقياد لطاعته (بل على معرفة الأشياء على ما هي عليها) ولم يقل بل على معرفة الله تعالى، فإنه إنما عنى بالإيمان معرفة الله الضرورية، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول، وأن له فاعلا فعله، ونقله من الأحوال المختلفة لا المعرفة المكتسبة، فإنه قد تقدم بيانها في أول الكتاب، (أعني أنها كالمتضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك) وتهيئها لقبوله .




الخدمات العلمية