الثاني هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في وهو أيضا صحيح في نفسه ; لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلا ظاهر ، وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال : لا موجود إلا هذه العلوم . حد العقل : إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات
الثالث علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال فإن فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا . من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال : إنه عاقل في العادة ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال : إنه غبي غمر جاهل
الرابع أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها عاقلا من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة وهذه أيضا فالأول هو الأس والسنخ والمنبع . من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان
والثاني هو الفرع الأقرب إليه والثالث فرع الأول والثاني إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب .
والرابع هو الثمرة الأخيرة وهو الغاية القصوى فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب .
ولذلك قال علي كرم الله وجهه .
رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس ، وضوء العين ممنوع والأول هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : ما خلق الله عز وجل خلقا أكرم عليه من العقل والأخير هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم إذا تقرب الناس بأبواب البر والأعمال الصالحة فتقرب أنت بعقلك وهو المراد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء رضي الله عنه ازدد عقلا تزدد من ربك قربا فقال : بأبي أنت وأمي وكيف لي بذلك ؟ فقال : اجتنب محارم الله تعالى وأد فرائض الله سبحانه تكن عاقلا ، واعمل بالصالحات من الأعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنل في آجل العقبى بها من ربك عز وجل القرب والعز .
وعن سعيد بن المسيب أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة رضي الله عنهم دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، من أعلم الناس فقال صلى الله عليه وسلم : العاقل قالوا فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل. قالوا: فمن أفضل الناس قال ؟ : العاقل قالوا أليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته فقال صلى الله عليه وسلم وإن : كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين إن العاقل هو المتقي وإن كان في الدنيا خسيسا ذليلا قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر إنما العاقل من آمن بالله وصدق رسله وعمل بطاعته ويشبه أن يكون أصل الاسم في أصل اللغة لتلك الغريزة وكذلك في الاستعمال وإنما أطلق على العلوم من حيث إنها ثمرتها كما يعرف الشيء بثمرته فيقال ; فإن الخشية ثمرة العلم فتكون كالمجاز لغير تلك الغريزة ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة . العلم هو الخشية والعالم من يخشى الله تعالى
والمقصود أن هذه الأقسام الأربعة موجودة والاسم يطلق على جميعها ولا خلاف في وجود جميعها إلا في القسم الأول والصحيح وجودها بل هي الأصل .
وهذه العلوم كأنها مضمنة في تلك الغريزة بالفطرة ولكن تظهر في الوجود إذا جرى سبب يخرجها إلى الوجود حتى كأن هذه العلوم ليست بشيء وارد عليها من خارج وكأنها كانت مستكنة فيها فظهرت ومثاله الماء في الأرض فإنه يظهر بحفر البئر ويجتمع ويتميز بالحس لا بأن يساق إليها شيء جديد وكذلك الدهن في اللوز وماء الورد في الورد ولذلك قال تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فالمراد به إقرار نفوسهم لا إقرار الألسنة فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة ، حيث وجدت الألسنة والأشخاص إلى مقر وإلى جاحد ولذلك قال تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله معناه إن اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم فطرت الله التي فطر الناس عليها أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله عز وجل بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك .