الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفي بعض التفاسير في قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة قال الزوجة الصالحة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أعطي العبد بعد الإيمان بالله خيرا من امرأة صالحة وإن منهن غنما لا يحذى منه ومنهن غلالا يفدى منه .

وقوله : لا يحذى أن : يعتاض عنه بعطاء .

وقال صلى الله عليه وسلم : " فضلت على آدم بخصلتين كانت زوجته عونا له على المعصية وأزواجي أعوان لي على الطاعة ، وكان شيطانه كافرا وشيطاني مسلم لا يأمر إلا بخير .

"
فعد معاونتها على الطاعة فضيلة ، فهذه أيضا من الفوائد التي يقصدها الصالحون إلا أنها تخص بعض الأشخاص الذين لا كافل لهم ولا مدبر ولا تدعو إلى امرأتين بل الجمع ربما ينغص المعيشة ويضطرب به أمور المنزل ويدخل في هذه الفائدة قصد الاستكثار بعشيرتها وما يحصل من القوة بسبب تداخل العشائر فإن ذلك مما يحتاج إليه في دفع الشرور وطلب السلامة ولذلك قيل : ذل من لا ناصر له ومن وجد من يدفع عنه الشرور سلم حاله وفرغ قلبه للعبادة فإن الذل مشوش للقلب والعز بالكثرة دافع بالذل .

الفائدة الخامسة : مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية ، والقيام بحقوق الأهل ، والصبر على أخلاقهن ، واحتمال الأذى منهن ، والسعي في إصلاحهن ، وإرشادهن إلى طريق الدين ، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن ، والقيام بتربيته لأولاده ، فكل هذه أعمال عظيمة الفضل فإنها رعاية وولاية والأهل والولد رعية وفضل الرعاية عظيم إنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم : " يوم من وال عادل أفضل من عبادة سبعين سنة " ثم قال : " ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

" وليس من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط ولا من صبر على الأذى كمن رفه نفسه وأراحها فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله ولذلك قال بشر فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث إحداها أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة وإن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته .

"
وقال بعضهم لبعض العلماء من كل عمل أعطاني الله نصيبا حتى ذكر الحج والجهاد وغيرهما فقال له أين أنت من عمل الأبدان ؟ قال : وما هو ؟ قال : كسب الحلال والنفقة على العيال .

وقال ابن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو تعلمون عملا أفضل مما نحن فيه ؟ قالوا : ما نعلم ذلك .

قال : أنا أعلم . قالوا : فما هو ؟ قال : رجل متعفف ذو عائلة قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياما متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه فعمله أفضل مما نحن فيه .

وقال صلى الله عليه وسلم : " من حسنت صلاته وكثر ، عياله ، وقل ماله ، ولم يغتب المسلمين ، كان معي في الجنة كهاتين .

" وفي حديث آخر : " إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال .

"
وفي الحديث : " إذا كثرت ذنوب العبد ابتلاه الله بهم العيال ليكفرها عنه .

" وقال بعض السلف : من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الغم بالعيال : وفيه أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة .

"

التالي السابق


( وفي بعض التفاسير في قوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة ) قال: ( الزوجة الصالحة) نقله صاحب "القوت " .

( وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: ما أعطي العبد بعد الإيمان بالله خيرا من المرأة الصالحة) . ولفظ " القوت " : بعد إيمان بالله خير من امرأة صالحة، ( وإن منهن غنما) بضم الغين المعجمة وسكون النون أي: غنيمة ( لا يحذى) منه بالبناء للمجهول من حذاه بالحاء المهملة والذال المعجمة ، ( ومنهن غل لا يفدي منه) كذا نقله صاحب "القوت "، ( وقوله: لا يحذى) منه من الحذيا وهو العطاء ( أي: لا يعتاض عنه بعطاء) ومعنى لا يفدى منه أي: لا قيمة له فتفدى به ولا يجوز لا راحة منه كالغل فصاحبها أسير تحتها لا يفتدى أبدا إلا بموتها. وقال أيضا: منهن غل قمل كانت العرب في معاقبتها للأسير تسلخ جلد شاة ثم تلبس إياه حارا فيلتزق على جسده وينقبض ثم لا تنزعه حتى يقمل وتنثر منه الهوام فذاك هو الغل القمل مثل المرأة المكرية .

( وقال -صلى الله عليه وسلم- : " فضلت على آدم عليه السلام بخصلتين كانت زوجته عونا له على المعصية وأزواجي عونا لي على الطاعات، وكان شيطانه كافرا وشيطاني مسلم لا يأمر إلا بخير") كذا في "القوت " .

قال العراقي : رواه الخطيب في التاريخ من حديث ابن عمرو ، وفيه محمد بن الوليد بن أبان القلانسي. قال ابن عدي كان يضع الحديث ، ولمسلم من حديث ابن مسعود " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن "، قالوا: وإياك يا رسول الله ؟ قال : " وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير" . اهـ .

قلت: وبإسناد الخطيب أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، والبيهقي في الدلائل بلفظ: " فضلت على آدم بخصلتين كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه حتى أسلم ، وكن أزواجي عونا لي ، وكان شيطان آدم كافرا ، وكانت زوجته عونا على خطيئته " ومحمد بن الوليد القلانسي قال أبو عروبة كذاب ومن أباطيله هذا الخبر . ونظرا إلى قوله وقول ابن عدي السابق أورده ابن الجوزي في الواهيات ، والصحيح أن الحديث ضعيف لضعف محمد بن الوليد ولا يدخل في حيز الموضوع .

وأما حديث ابن مسعود فقد رواه أيضا أحمد ورواه مسلم أيضا من حديث عائشة بلفظ: " ما منكم من أحد إلا ومعه شيطان قالوا: وأنت يا رسول الله ؟ قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم". ورواه الطبري في الكبير عن أسامة بن شريك ، ورواه أيضا ابن حبان والبغوي من حديث شريك بن طارق نحوه، وقال البغوي: لا أعلم له غيره ( فعد معاونتها على الطاعة فضيلة ، فهذه أيضا من الفوائد التي يقصدها الصالحون) ويراعون ذلك فيهن ( إلا أنها تخص بعض الأشخاص الذين لا كافل لهم ولا مدبر) وأما من [ ص: 314 ] كان له من يتكفل بقضاء واجب خدمته فلا يحتاج إلى معاونة المرأة، ( ولا تدعو إلى) أخذ امرأتين بل الجمع بينهما ( ربما ينغص المعيشة) ويكدرها ( وتضطرب به أمور المنزل) لما بينهما من المعاداة والغيرة الباطنية ، ( ويدخل في هذه الفائدة قصد الاستكثار بعشيرتها) في معاونة ببعض الأمور ( وما يحصل من القوة والشدة بسبب تداخل العشائر) في بعضها بالصهورة ، ( فإن ذلك مما يحتاج إليه في) بعض الأوقات لأجل ( دفع الشرور وطلب السلامة) من الأعداء ، ( ولذلك قيل: ذل من لا ناصر له) وكذا قولهم: المرء بنفسه قليل بإخوانه كثير ، ( ومن وجد من يدفع عنه الشرور) ويتعصب له في نصرته ( سلم حاله وفرغ قلبه للعبادة فإن الذل مشوش للقلب والعز بالكثرة دافع للذل) كما هو مشاهد .



( الفائدة الخامسة: مجاهدة النفس) وتذليلها ( ورياضتها بالرعاية والولاية ، والقيام بحقوق الأهل ، والصبر على أخلاقهن ، واحتمال الأذى منهن ، والسعي في إصلاحهن ، وإرشادهن إلى طريق الدين ، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن ، والقيام بتربية الأولاد ، فكل هذه) التي ذكرناها ( أعمال عظيمة الفضل فإنها رعاية وولاية والأهل والولد رعية) الرجل ، ( وفضل الرعاية عظيم) الموقع ، ( وإنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها) لا لكونها غير فاضلة في حد ذاتها ، ( وإلا فقد قال -صلى الله عليه وسلم- : " يوم من وال عادل أفضل من عبادة سبعين سنة") .وفي نسخة العراقي: " يوم من ملك عادل " وفي رواية أخرى: " يوم من إمام عادل " قال العراقي : رواه الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس، وقد تقدم بلفظ " ستين سنة" . اهـ .

قلت: وكذلك رواه إسحاق بن راهويه في مسنده بلفظ: " ستين " وفي آخره زيادة " وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاما " .

( ثم قال: " ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ") ، وهذا متفق عليه من حديث ابن عمر في أثناء حديث طويل. ( وليس من اشتغل بإصلاح نفسه و) صلاح ( غيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط) بل الأول أعلى مقاما لتعدي نفعه إلى غيره، (ولا من صبر على الأذى) واحتمل الجفاء ( كمن رفه نفسه) أي: جعلها في رفاهية أي سعة من العيش ( وأراحها) أي أعطاها الدعة والراحة ( فمقاساة الأهل والوالد بمنزلة الجهاد في سبيل الله) في حصول كمال المشقة في كل منهما من جهة إتعاب المال والبدن ، ( ولذلك قال بشر) بن الحارث الحافي -رحمه الله تعالى -: ( فضل علي أحمد بن حنبل) -رحمه الله تعالى - ( بثلاث إحداها أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره) وإنما أطلب الحلال لنفسي وبقية الثلاث قد ذكرت قريبا. ( وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : " ما أنفق الرجل على أهله فهو صدقة وإن الرجل ليؤجر في رفعه اللقمة إلى في امرأته") كذا في "القوت " قال العراقي : رواه البخاري ومسلم من حديث أبي مسعود: " إذا أنفق الرجل إلى أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة " ولهما من حديث سعد بن أبي وقاص " ومهما أنفقته فهو لك صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك" . اهـ .

قلت: وحديث أبي مسعود رواه كذلك أحمد والنسائي ، واسم أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري .

( وقال بعض العلماء) ولفظ " القوت ": وقال رجل لبعض العلماء وهو يعدد نعم الله عليه: ( من كل عمل أعطاني الله نصيبا حتى ذكر الحج والجهاد وغيرهما) من صنوف العبادات ، ( فقال له) العالم: ( أين أنت من عمل الأبدال ؟ قال: وما هو ؟ قال: كسب الحلال والنفقة على العيال) نقله صاحب "القوت " .

( وقال ابن المبارك) -رحمه الله تعالى - ( وهو مع إخوانه في الغزو) ولفظ " القوت ": لإخوانه وهم معه في الغزو: ( تعلمون عملا أفضل مما نحن فيه ؟ قالوا: ما نعلم ذلك) جهاد في سبيل الله وقتال لأعداء الله أي شيء أفضل من هذا ؟ ( قال: أنا أعلم. قالوا: فما هو ؟ قال: رجل متعفف ذو عيلة) أي: عيال صغار ( قام من الليل فنظر إلى صبيانه [ ص: 315 ] نياما متكشفين فسترهم وغطاهم بثوبه) الذي عليه ( فعمله) هذا ( أفضل مما نحن فيه) نقله صاحب "القوت " .

( وقال -صلى الله عليه وسلم- : " من حسنت صلاته ، وكثرت عياله ، وقل ماله ، ولم يغتب المسلمين ، كان معي في الجنة كهاتين ") كذا في "القوت ". قال العراقي : رواه أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري بسند ضعيف. اهـ .

قلت: وكذلك رواه سمويه في فوائده لكن بتقديم " قل ماله " على " كثر عياله " .

( وفي حديث آخر : " إن الله تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال ") كذا في "القوت ". قال العراقي : رواه ابن ماجه من حديث عمران بن حصين بسند ضعيف. اهـ .

قلت: رواه في الزهد بلفظ : " إن الله يحب عبده المؤمن الفقير المتعطف أبا العيال " وإنما كان ضعيفا لأن في سنده حماد بن عيسى وموسى بن عبيدة، ضعيفان ، قال السخاوي: لكن له شواهد ، والمراد بالمتعفف المبالغ في العفة عن السؤال مع وجود الحاجة لطموح بصر بصيرته عن الخلق إلى الخالق ، وإنما يسأل إن سأل على سبيل التلويح الخلفي ، وقوله " أبا العيال " يعني بذلك الكافل لهم أبا كان أو جدا أو أما أو جدة أو نحو أخ أو ابن عم ، لكن لما كان القائم على العيال يكون أبا غالبا ذكره وفي ضمنه إشعار بأنه يندب للفقير ندبا مؤكدا أن يظهر التعفف والتحمل ولا يظهر الشكوى والفقر بل يستره والله أعلم .

قال صاحب "القوت ": ومن السنة في ذلك أن الاهتمام في مصالحهم والغم على نوائبهم زيادة في حسناته لأنه عمل من أعماله .

( وفي الحديث : " إذا كثرت ذنوب العبد ابتلاه الله بالهم ليكفرها ") .وفي بعض النسخ " بهم " قال العراقي : رواه أحمد من حديث عائشة إلا أنه قال " بالحزن"، وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه. اهـ .

قلت: ولفظ أحمد: " إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه " قال المنذري: رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم وثقه قوم وضعفه آخرون .

( وقال بعض السلف: من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الغم بالعيال) هكذا نقله صاحب "القوت " ، ( ثم قال: وفيه أثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة ") قال العراقي : رواه الطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف. اهـ .

قلت: رواه من طريق يحيى بن بكير ، عن مالك ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال الحافظ ابن حجر: إسناده إلى يحيى واه. وقال شيخنا الهيتمي: فيه محمد بن سلام المصري. قال الذهبي: حدث عن يحيى بن بكير بخبر موضوع. اهـ .

ورواه كذلك ابن عساكر في تاريخه لفظهم جميعا : " إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج. قيل: وما يكفرها ؟ قال: يكفرها الهموم في طلب المعيشة ". وفي رواية: " عرق الجبين " بدل " الهم " .

وروى الديلمي من حديث [ ص: 316 ] أبي هريرة : " إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم " يعني في المعيشة .




الخدمات العلمية