فإن قلت : فلم ترك عيسى عليه السلام النكاح مع فضله وإن كان الأفضل التخلي لعبادة الله فلم استكثر رسولنا صلى الله عليه وسلم من الأزواج فاعلم أن الأفضل الجمع بينهما في حق من قدر ومن قويت منته وعلت همته فلا يشغله عن الله شاغل ورسولنا صلى الله عليه وسلم أخذ بالقوة ولقد كان مع تسع من النسوة . وجمع بين فضل العبادة والنكاح
متخليا لعبادة الله وكان قضاء الوطر بالنكاح في حقه غير مانع كما لا يكون قضاء الحاجة في حق المشغولين بتدبيرات الدنيا مانعا لهم عن التدبير حتى يشتغلوا في الظاهر بقضاء الحاجة وقلوبهم مشغوفة بهممهم غير غافلة عن مهماتهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلو درجته لا يمنعه أمر هذا العالم عن حضور القلب مع الله تعالى فكان ينزل عليه الوحي وهو في فراش امرأته .
ومتى سلم مثل هذا المنصب لغيره فلا يبعد أن يغير السواقي ما لا يغير البحر الخضم . فلا ينبغي أن يقاس عليه غيره .
وأما عيسى صلى الله عليه وسلم فإنه أخذ بالحزم لا بالقوة واحتاط لنفسه ولعل حالته كانت حالة يؤثر فيها الاشتغال بالأهل أو يتعذر معها طلب الحلال أو لا يتيسر فيها الجمع بين النكاح والتخلي للعبادة ، فآثر التخلي للعبادة وهم أعلم بأسرار أحوالهم وأحكام أعصارهم في طيب المكاسب وأخلاق النساء ، وما على الناكح من غوائل النكاح وما له فيه ومهما كانت الأحوال منقسمة حتى يكون النكاح في بعضها أفضل وتركه في بعضها أفضل فحقنا أن ننزل أفعال الأنبياء على الأفضل في كل حال والله أعلم .