ثم ضبط المحقرات عسير فإن رد الأمر إلى العادات فقد جاوز الناس إذ يتقدم الدلال إلى البزاز يأخذ منه ثوبا ديباجا ، قيمته عشرة دنانير مثلا ، ويحمله إلى المشتري ويعود إليه بأنه ارتضاه فيقول له خذ عشرة فيأخذ من صاحبه العشرة ويحملها ويسلمها إلى البزاز فيأخذها ويتصرف ، فيها ومشتري الثوب يقطعه ولم يجر بينهما إيجاب ، وقبول ، أصلا وكذلك يجتمع ، المجهزون على حانوت البياع فيعرض متاعا ، قيمته مائة دينار مثلا ، فيمن يزيد ، فيقول أحدهم هذا علي بتسعين ويقول الآخر هذا علي بخمسة وتسعين ويقول الآخر هذا بمائة فيقال له : زن فيزن ويسلم ويأخذ المتاع من غير إيجاب وقبول فقد استمرت به العادات وهذه من المعضلات التي ليست تقبل العلاج إذ الاحتمالات ثلاثة . المحقرات في المعاطاة
إما فتح باب المعاطاة مطلقا في الحقير والنفيس وهو محال ; إذ فيه نقل الملك من غير لفظ دال عليه وقد ، أحل الله البيع والبيع : اسم للإيجاب والقبول ، ولم يجر ولم ينطلق اسم البيع على مجرد فعل بتسليم وتسلم فبماذا يحكم بانتقال الملك من الجانبين لا ، سيما في الجواري ، والعبيد ، والعقارات ، والدواب النفيسة وما يكثر التنازع فيه إذ للمسلم أن يرجع ويقول : قد ندمت وما بعته ، إذ لم يصدر مني إلا مجرد تسليم ، وذلك ليس ببيع .
الاحتمال الثاني : أن نسد الباب بالكلية كما قال من بطلان العقد وفيه إشكال من وجهين . الشافعي رحمه الله
أحدهما : أنه يشبه أن يكون ذلك في المحقرات معتادا في زمن الصحابة ولو كانوا يتكلفون الإيجاب والقبول من البقال ، والخباز ، والقصاب لثقل عليهم فعله ، ولنقل ذلك نقلا منتشرا ولكان يشتهر وقت الإعراض بالكلية عن تلك العادة فإن ; الأعصار في مثل هذا تتفاوت .
والثاني أن الناس الآن قد انهمكوا فيه فلا يشتري الإنسان شيئا من الأطعمة ، وغيرها إلا ويعلم أن البائع قد ملكه بالمعاطاة فأي فائدة في تلفظه بالعقد ، إذا كان الأمر كذلك .
الاحتمال الثالث : أن يفصل بين المحقرات وغيرها ، كما قاله وعند ذلك يتعسر الضبط في المحقرات ، ويشكل وجه نقل الملك من غير لفظ يدل عليه ، وقد ذهب ابن سريج إلى تخريج قول أبو حنيفة رحمه الله على وفقه وهو أقرب الاحتمالات إلى الاعتدال ، فلا بأس لو ملنا إليه لمسيس الحاجات ; ولعموم ذلك بين الخلق ولما يغلب على الظن بأن ذلك كان معتادا في الأعصار الأولى . للشافعي رحمه الله
فأما الجواب عن الإشكالين فهو أن نقول :
أما الضبط في الفصل بين المحقرات وغيرها ، فليس علينا تكلفة بالتقدير ، فإن ذلك غير ممكن بل له طرفان واضحان ; إذ لا يخفى أن شراء البقل ، وقليل من الفواكه ، والخبز ، واللحم ، من المعدود من المحقرات ، التي لا يعتاد فيها إلا المعاطاة وطالب الإيجاب والقبول فيه يعد مستقصيا ويستبرد تكليفه لذلك ، ويستثقل وينسب إلى أنه يقيم الوزن لأمر حقير ولي وجه له هذا طرف الحقارة . والطرف الثاني : الدواب والعبيد والعقارات والثياب النفيسة فذلك مما لا يستبعد تكلف الإيجاب والقبول فيها وبينهما أوساط متشابهة ، يشك فيها ، هي في محل الشبهة فحق ذي الدين أن يميل فيها إلى الاحتياط ، وجميع ضوابط الشرع فيما يعلم بالعادة كذلك ينقسم إلى أطراف واضحة وأوساط ، مشكلة .
وأما الثاني : وهو طلب سبب لنقل الملك فهو أن يجعل الفعل باليد أخذا وتسليما سببا لعينه بل لدلالته وهذا الفعل قد دل على مقصود البيع دلالة مستمرة في العادة وانضم إليه مسيس الحاجة وعادة الأولين واطراد جميع العادات بقبول الهدايا من غير إيجاب وقبول مع التصرف فيها وأي فرق بين أن يكون فيه عوض أو لا يكون إذ الملك لا بد من نقله في الهبة أيضا ، إلا أن العادة السالفة ، لم تفرق في الهدايا بين الحقير والنفيس ، بل كان طلب الإيجاب والقبول يستقبح فيه كيف كان ، وفي المبيع لم يستقبح في غير المحقرات هذا ما نراه أعدل الاحتمالات وحق الورع المتدين أن لا يدع الإيجاب والقبول للخروج عن شبهة الخلاف فلا ينبغي أن يمتنع من ذلك لأجل أن البائع قد تملكه بغير إيجاب وقبول فإن ذلك لا يعرف تحقيقا ، فربما اشتراه بقبول وإيجاب ، فإن كان حاضرا عند شرائه ، أو أقر البائع به فيمتنع ، منه ، وليشتر من غيره ، فإن كان الشيء محقرا وهو إليه محتاج ، فليتلفظ بالإيجاب والقبول فإنه يستفيد به قطع الخصومة في المستقبل معه ، إذ الرجوع من اللفظ الصريح غير ممكن ، ومن الفعل ممكن .
فإن قلت فإن : أمكن هذا فيما يشتريه ، فكيف يفعل إذا حضر في ضيافة أو على مائدة وهو يعلم أن أصحابها يكتفون بالمعاطاة في البيع والشراء أو سمع منهم ذلك أو رآه أيجب عليه الامتناع من الأكل فأقول : يجب عليه الامتناع من الشراء ، إذا كان ذلك الشيء الذي اشتروه مقدارا نفيسا ، ولم يكن من المحقرات .
وأما الأكل فلا يجب الامتناع منه فإني أقول إن ترددنا في جعل الفعل دلالة على نقل الملك ، فلا ينبغي أن لا نجعله دلالة على الإباحة ، فإن أمر الإباحة أوسع ، وأمر نقل الملك أضيق