الثاني : أن فإن الصناعات والتجارات لو تركت ، بطلت المعايش وهلك أكثر الخلق . يقصد القيام في صنعته ، أو تجارته ، بفرض من فروض الكفايات ،
فانتظام أمر الكل بتعاون الكل ، وتكفل كل فريق بعمل ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا ، وعلى هذا حمل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم : اختلاف أمتي رحمة . أي اختلاف همهم في الصناعات والحرف .
ومن الصناعات ما هي مهمة ومنها ما يستغنى عنها لرجوعها ; إلى طلب النعم ، والتزين في الدنيا فليشتغل بصناعة مهمة ; ليكون في قيامه بها كافيا عن المسلمين ، مهما في الدين وليجتنب صناعة النقش والصياغة وتشييد البنيان بالجص وجميع ما تزخرف به الدنيا ، فكل ذلك كرهه ذوو الدين فأما عمل الملاهي ، والآلات التي يحرم استعمالها ، فاجتناب ذلك من قبيل ترك الظلم ، ومن جملة ذلك : خياطة الخياط القباء من الإبر يسم للرجال وصياغة الصائغ مراكب الذهب أو خواتيم الذهب للرجال فكل ذلك من المعاصي ، والأجرة المأخوذة عليه حرام ولذلك أوجبنا الزكاة فيها وإن كنا لا نوجب الزكاة في الحلي لأنها إذا قصدت للرجال فهي محرمة ، وكونها مهيأة للنساء لا يلحقها بالحلي المباح ، ما لم يقصد ذلك بها ، فيكتسب حكمها من القصد .
وقد ذكرنا أن بيع الطعام ، وبيع الأكفان مكروه ; لأنه يوجب انتظار موت الناس وحاجتهم بغلاء السعر .
ويكره أن يكون جزارا ; لما فيه من قساوة القلب وأن يكون حجاما أو كناسا لما فيه من مخامرة النجاسة وكذا الدباغ وما في معناه وكره ابن سيرين الدلالة وكره قتادة أجرة الدلال ولعل السبب فيه ; قلة استغناء الدلال عن الكذب ولأن العمل فيه لا يتقدر فقد يقل وقد يكثر ، ولا ينظر في مقدار الأجرة ، إلى عمله ، بل إلى قدر قيمة الثوب هذا هو ، العادة وهو ظلم ، بل ينبغي أن ينظر إلى قدر التعب وكرهوا شراء الحيوان للتجارة لأن المشتري يكره قضاء الله فيه ، وهو الموت الذي بصدده لا محالة وحلوله . والإفراط في الثناء على السلعة ; لترويجها
، وقيل بع الحيوان واشتر الموتان وكرهوا الصرف لأن الاحتراز فيه عن دقائق الربا عسير ولأنه طلب لدقائق الصفات فيما لا يقصد أعيانها وإنما يقصد رواجها وقلما يتم للصيرفي ربح إلا باعتماد جهالة معامله بدقائق النقد ، فقلما يسلم الصيرفي وإن احتاط ويكره للصيرفي وغيره كسر الصحيح والدنانير ، إلا عند الشك في جودته ، أو عند ضرورة .
قال أحمد بن حنبل رحمه الله ورد نهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن أصحابه ، في الصياغة من الصحاح ، وأنا أكره الكسر وقال : يشتري بالدنانير دراهم ، ثم يشتري بالدرهم ذهبا ، ويصوغه واستحبوا تجارة البز .
قال ما من تجارة أحب إلي من البز ما لم يكن فيها أيمان . سعيد بن المسيب
وقد روي : خير تجارتكم البز ، وخير صنائعكم الخرز .
وفي حديث آخر : لو اتجر أهل الجنة لاتجروا في البز ، ولو اتجر أهل النار لاتجروا في الصرف .
وقد كان غالب أعمال الأخيار من السلف عشر صنائع : الخرز والتجارة والحمل والخياطة ، والحذو والقصارة وعمل الخفاف ، وعمل الحديد ، وعمل المغازل ومعالجة صيد البر والبحر والوراقة قال عبد الوهاب الوراق .
قال لي ما صنعتك ؟ قلت : الوراقة ، قال : كسب طيب ، ولو كنت صانعا بيدي لصنعت صنعتك ، ثم قال لي : لا تكتب إلا مواسطة واستبق الحواشي وظهور الأجزاء . أحمد بن حنبل ،
وأربعة من الصناع موسومون عند الناس بضعف الرأي الحاكة والقطانون ، والمغازليون ، والمعلمون .
ولعل ذلك لأن أكثر مخالطتهم مع النساء والصبيان ومخالطة ضعفاء العقول تضعف العقل ، كما أن مخالطة العقلاء تزيد في العقل .
وعن مجاهد أن مريم عليها السلام مرت في طلبها لعيسى عليه السلام بحاكة فطلبت الطريق فأرشدوها غير الطريق فقالت : اللهم انزع البركة من كسبهم ، وأمتهم فقراء ، وحقرهم في أعين الناس ، فاستجيب دعاؤها .
وكره السلف كغسل الموتى ودفنهم ، وكذا الأذان ، وصلاة التراويح ، وإن حكم بصحة الاستئجار عليه وكذا تعليم القرآن ، وتعليم علم الشرع فإن هذه أعمال حقها أن يتجر فيها للآخرة وأخذ الأجرة ، عليها استبدال بالدنيا عن الآخرة ولا ، يستحب ذلك . أخذ الأجرة على كل ما هو من قبيل العبادات ، وفروض الكفايات