الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم في تفضيل العلم على العبادة والشهادة : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي " فانظر كيف جعل العلم مقارنا لدرجة النبوة ، وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم ، وإن كان العابد لا يخلو عن علم بالعبادة التي يواظب عليها ، ولولاه لم تكن عبادة وقال صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وقال صلى الله عليه وسلم : " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " فأعظم بمرتبة هي تلو النبوة وفوق الشهادة مع ما ورد في فضل الشهادة .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عبد الله تعالى بشيء أفضل من فقه في الدين ، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ، ولكل شيء عماد ، وعماد هذا الدين الفقه "

التالي السابق


العشرون: (وقال عليه الصلاة والسلام: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب") أخرجه أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وهو قطعة من حديث أبي الدرداء المتقدم، قاله العراقي.

وقال السخاوي في المقاصد: روي عن أبي الدرداء مرفوعا عند أصحاب السنن الأربعة، وعن عبد الله بن عمر، وفي الترغيب للأصبهاني بهذا اللفظ، وعن عبد الرحمن بن عوف نحوه، أخرجه أبو يعلى. اهـ .

قلت: وفي مسند أبي يعلى أيضا من رواية عثمان بن أعين، عن أبي الدرداء، ولفظه: "للعالم من الفضل على العابد" وفيه: "على أصغر كوكب في السماء" .

وأخرجه أبو نعيم في الحلية، عن معاذ، كذا في الجامع للجلال، وهو من رواية عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه عن معاذ، وكذا أحمد في مسنده والدارمي، وفيه زيادة: "وإن العلماء ورثة الأنبياء" وبه تعلم قصور الجلال؛ حيث اقتصر على عزوه لأبي نعيم، فقد قال البيضاوي: العبادة كمال ونور ملازم ذات العابد، لا يتخطاه، فشابه نور الكواكب، والعلم كمال يوجب للعالم في نفسه شرفا، وفضلا، ويتعدى منه إلى غيره، فيستضيء بنوره ويكمل بواسطته، لكنه كمال ليس للعالم في ذاته، بل نور يتلقاه من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فلذلك شبه بالقمر .

قال الطيبي: ولا تظنن أن العالم المفضل عار عن العمل، ولا العابد عن العلم، بل إن علم ذلك غالب على عمله، وعمل هذا غالب على علمه؛ ولذلك جعل العلماء ورثة الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين: العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين: الكمال والتكميل، وإذا عرفت ذلك ظهر لك سر قول المصنف فيما قبل. وقال ابن الملقن: فيه أن نور العلم يزيد على نور العبادة، كما مثله بالقمر بالنسبة لسائر الكواكب. اهـ .

ثم إن المراد في هذه الأخبار بالعالم من صرف نفسه للتعليم والإرشاد والتصنيف، وبالعابد من انقطع للعبادة تاركا ذلك إن كان عالما، فتأمل .

الحادي والعشرون: (وقال صلى الله عليه وسلم: "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء") أخرجه ابن ماجه من حديث عثمان بن عفان بإسناد ضعيف، قاله العراقي.

قلت: أخرجه من طريق عنبسة بن عبد الرحمن القرشي، عن علاق بن أبي مسلم، عن أبان، عن عثمان، وقد رمز لحسنه، وهو عليه رد؛ فقد أعله ابن عدي والعقيلي بعنبسة، ونقلا عن البخاري: أنهم تركوه، ومن ثم جزم العراقي بضعف الخبر. قاله المناوي.

قلت: عنبسة هذا هو ابن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي، الأموي، روى عنه إسحاق بن أبي إسرائيل، وعبد الواحد بن غياث، وجمع، وهو من رجال الترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الذهبي في الديوان: متروك متهم، وعلاق ضعفه الأزدي، ولم يرو عنه غير عنبسة، وبه تعلم أن قول العزيزي شارح الجامع: "إنه حسن" محل تأمل .

وأروده صاحب القوت من غير عزو، وليس فيه لفظ "ثلاثة" ثم قال بعد ذلك، فقدم العلماء على الشهداء؛ لأن العالم إمام أمة، فله مثل أجور أمته، والشهيد عمله لنفسه. اهـ .

قال القرطبي: فأعظم منزلة هي بين النبوة والشهادة بشهادة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولما كان العلماء يحسنون إلى الناس بعلمهم الذي أفنوا فيه نفائس أوقاتهم أكرمهم الله [ ص: 81 ] تعالى بولاية مقام الإحسان إليهم في الآخرة بالشفاعة فيهم، جزاء وفاقا .

وقد أخذ بقضية هذا الخبر جمع، فصرحوا بأن العلم أفضل من القتل في سبيل الله؛ لأن المجاهد وكل عامل إنما يتلقى عمله من العالم، فهو أصله وأسه، وعكس آخرون .

وقد رويت أحاديث من الجانبين، وفيها ما يدل للفريقين، وقال ابن الزملكاني: وعندي أنه يجب التفصيل في التفضيل، وإن حمل على بعض الأحوال أو بعض الأشخاص كل بدليل (فأعظم بمرتبة هي تتلو النبوة وفوق الشهادة مع ما ورد في فضل الشهادة) .

الثاني والعشرون: (وقال عليه السلام: "ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد الدين الفقه") .

أخرجه الطبراني في الأوسط، وأبو بكر الآجري في فضل العلم، وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، وعند الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس بسند ضعيف: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" قاله العراقي.

قلت: كل جملة من الثلاثة حديث مستقل:

أما الأولى منها: فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان من رواية عيسى بن زياد الدورقي، حدثنا مسلمة بن قعنب، عن نافع، عن ابن عمر، رفعه: "ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين" وقال: تفرد به عيسى بن زياد بهذا الإسناد .

قال: وروي من وجه آخر ضعيف، والمحفوظ هذا اللفظ من قول الزهري. وفي رواياته: "ما عبد الله بأفضل" .

وأما قول الزهري فقد أخرجه أبو نعيم في الحلية من رواية هشام بن يوسف، حدثنا معمر، عن الزهري، قال: "ما عبد الله بشيء أفضل من العلم".

وأما الثانية: فقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه، عن ابن عباس، كما قاله العراقي، ولفظ ابن ماجه: "فقيه واحد" من غير لام، ولفظ الترمذي: "ففيه أشد" من غير ذكر واحد .

أما الترمذي فأخرجه في كتاب العلم، وابن ماجه في كتاب السنة من سننهما، وقال الترمذي: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، أي: من رواية الوليد بن مسلم، عن روح بن جناح، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وأورده ابن الجوزي في العلل، وقال: لا يصح، والمتهم به روح بن جناح، قال أبو حاتم: يروي عن الثقات ما لم يسمعه من ليس متبحرا في صناعة الحديث، شهد له بالوضع. اهـ .

وأورد الحديثين معا جماعة، وهم الثلاثة الذين ذكرهم العراقي آنفا، والبيهقي في الشعب، والدارقطني في السنن، والقضاعي في مسند الشهاب، وأحمد بن منيع في مسنده، كلهم من حديث يزيد بن عياض، عن صفوان بن سليم، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة مرفوعا، ويزيد بن عياض قال فيه النسائي: متروك، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال الشيخان: منكر الحديث. وقال مالك: هو أكذب من ابن سمعان.

وقال العدني في مسنده: حدثنا يوسف بن خالد البصري، عن مسلمة بن قعنب، عن نافع، عن ابن عمر رفعه: "ما عبد الله بشيء أفضل من تفقه في دين".

وفي المقاصد: قال الطبراني: لم يروه عن صفوان إلا يزيد، وسنده ضعيف .

وللعسكري من حديث الوليد بن مسلم: حدثنا راشد بن جناح، عن مجاهد، عن ابن عباس رفعه: "الفقيه الواحد أشد على إبليس من ألف عابد" ورواه الترمذي، وقال: غريب، وابن ماجه والبيهقي، ثلاثتهم من جهة الوليد بن مسلم، فقال: عن روح بن جناح بدل راشد، ولفظه: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" وسنده ضعيف، لكن يتأكد أحدهما بالآخر .

وفي الفردوس للديلمي بلا سند عن ابن مسعود رفعه: "لعالم واحد أشد على إبليس من عشرين عابدا" وفي الباب عن ابن عمرو عند الحكيم الترمذي في التاسع عشر عن أبي هريرة، رفعه: "لكل شيء دعامة ودعامة الإنسان الفقه في الدين، والفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد" رواه البيهقي، وقال: تفرد به أبو الربيع السمان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه به مرفوعا. اهـ .

وروى الخطيب في تاريخه من طريق الأعرج، عن أبي هريرة، ولفظه: "إن لكل شيء دعامة ودعامة هذا الدين الفقه".

وأخرج أحمد بن منيع في مسنده من طريق زياد بن عياض، عن صفوان بن سليم، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، رفعه: "لكل شيء عماد وعماد الدين الفقه".

وأخرج أبو نعيم في الحلية من هذه الطريق، ولفظه: "ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين".

قال: وقال أبو هريرة: "لأن أتفقه ساعة أحب إلي من أن أحيي ليلة حتى أصبح أصليها، ولفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء [ ص: 82 ] دعامة، ودعامة الدين الفقه".

قال المناوي في شرح الحديث الأول "ما عبد الله بأفضل من فقه في دين" أي أن أداء العبادات يتوقف على معرفة الفقه؛ إذ الجاهل لا يدري كيف يتقي، لا في جانب الأمر ولا في جانب النهي، وبذلك يظهر فضل الفقه وتميزه عن سائر العلوم بكونه أهمها، وإن كان غيره أشرف، والمراد بالفقه المتوقف عليه ذلك ما لا رخصة للمكلف في تركه دون ما لا يقع إلا نادرا، أو نحو ذلك .

وذهب بعض الصوفية إلى أن المراد بالفقه هنا المعنى اللغوي، فقال: هو الفهم وانكشاف الأمور، والفهم هو العارض الذي يعترض في القلب من النور، فإذا عرض انفتح بصر القلب، فرأى صورة الشيء في صدره، حسنا كان أو قبيحا، فالانفتاح هو الفقه والعارض هو الفهم، فإذا فهم سر معاملات الله هانت عليه الكلف، وعبد الله بانشراح وانبساط، وذلك أفضل العبادات بلا ريب .

وقال في شرح الحديث الثاني "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد": أي لأن الشيطان كلما فتح بابا على الناس من الهوى بين الفقيه العارف مكايده، فيسد ذلك الباب، ويرده خاسئا، والعابد ربما اشتغل بالعبادة وهو في حبائل الشيطان ولا يدري .

وقال الذهبي: هذا الحديث لو صح نص في الفقيه الذي تبصر في العلم، ورقي إلى درجة الاجتهاد، وعمل بعلمه، لا كفقيه اشتغل بمحض الدنيا .




الخدمات العلمية