الوجه الخامس: أن يقال: لا نسلم أن يوجب القدح في أصل النقل [كما في] قوله: (لأن العقل أصل للنقل، فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما) . تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه، وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولا،
قلنا: لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولا، ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه، فتلك الأمور، التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها، ليست أصلا للسمع، ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع، فلا يجوز أن يرد شيء منه، فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع، وإن قدر أنها عقليات صحيحة، مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها، فإنها مع كونها [ ص: 42 ] عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها القدح في السمع، فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم؟
بل كل من كان عن الشرائع أبعد، كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر، كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم - حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات - ما لا يكاد يحصى.
وكلامهم في الإلهيات قليل، وعلمهم بها ضعيف، ومسائلها عندهم يسيرة، وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.
وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى والأخلق، وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية.
وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات، فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة، لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات، فضلا عن أن يعارض به، ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله، للزم من الجمع بين النقيضين ما شاء الله.
فنفاة الجزء - الذي هو الجوهر الفرد - ومثبتوه، كل منهم يقول: إن ذلك معلوم بالعقل. والقائلون ببقاء بعض الأعراض، مع القائلين بفنائها، والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها، والقائلون [ ص: 43 ] بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها، وأضعاف ذلك.
بل العقليات الصحيحة: ما كان معقولا للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها. وهذا القدر لا يزال موجودا في بني آدم، وإن فسد رأي القوم، لم يلزم فساد رأي آخرين.
لكن إذا تنازع الناس، وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة، لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته: إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم، وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر، فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه.
والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل: إن كل ما يسمى معقولا يجوز قبوله، فضلا عن أن يجب، فضلا عن أن يعارض به معقول آخر، فضلا عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله.
وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولا رد لسائرها، فإذا رد مما يسمى معقولا ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع، وهو المطلوب.
وإذا كان كذلك، فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية - هو ما ذكروه في نفي وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه، فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه، ولا يكون داخل العالم ولا خارجه، [ ص: 44 ] ومقدمات ذلك المستلزمة له، لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك، فإنا نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، أن الذين آمنوا بالرسول وجزموا بصدقه - وهم باتفاق المسلمين أعلم الأمة بصدقه، وصدق ما أخبر به، وصحة ذلك - لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه، يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك، ولا مناظرين به أحدا، ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلا عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه، وأن صانع العلم ليس بداخل العلم ولا خارجه، ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله. علو الله على خلقه،
ومما يوضح ذلك أنا نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به الله، لو كانت مستلزمة لقول وأن الله ليس مباينا للعالم ولا هو فوق السماوات، ولا يمكن الإشارة إليه، ولا عرج أحد من الملائكة ولا نفاة العلو، محمد، إليه نفسه، ولا نزل من عنده نفسه شيء: لا ملك ولا غيره - لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم، كما حصلت في أنفس غيرهم، ولا سيما مع كثرة الخلق، وانتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم، لامتنع فيه العادة أن يتكلموا بها، فضلا عن أن يتكلموا بنقيضها، ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع، لكانوا يسألونه ويقولون: ما دلت [ ص: 45 ] عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه، فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة، وبين الإخبار بهذه الأمور، بل تصديقك في دعوى الرسالة يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار، فكيف نصنع؟ هل لها تأويل يوافق ما به علمنا أنك صادق؟ : أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا، ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه؟ .
وهذا فيه عذاب عظيم للعقول، وفساد عظيم في القلوب، إذا كان الرجل مأمورا أن يقرأ في الليل والنهار كلاما، يقرأ به في صلاته وغير صلاته، ويجزم بأنه صدق لا كذب، وأن من كفر بحرف منه فهو كافر، وذلك الكلام مشتمل على أن أخبار ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم صدق ذلك الكلام، بل هو باطل وضلال وكفر، فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب، ويمرض قلبه أعظم مرض، ويكون تألمه لذلك ووجع قلبه، أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله.
فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبره أنه حق وصدق، فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه، دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره، أبطل شاهد صدقه.
ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولا لهم، غير ما به علموا صدقه، لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله، فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه؟ . [ ص: 46 ]
وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل بعضهم بعضا، عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره، مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين، وبايعهم تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك [العام]، ويرد إلى المشركين ما جاءه مؤمنا مهاجرا، ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتدا، وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح: (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن يكتبوا: هذا ما قاضى عليه بيعة الرضوان محمد رسول [الله]، وأمثال ذلك.
والمقصود أن كثيرا من الصحابة اشتد عليهم ذلك، وأجلهم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عمر، إلى عمر أبي بكر، فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجابه فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه. فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ فقال بلى، أقلت لك إنك تأتيه هذا العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به . ثم ذهب أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم، من غير أن يكون سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم. [ ص: 47 ]
والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء.
فهذا وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: عمر، فعمر، أخرجاه في الصحيحين. إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد
وقال: وقلبه عمر . إن الله ضرب الحق على لسان
وقال: لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر، رواه الترمذي.
إلى غير ذلك من فضائله، وقد اشتبه عليه معنى نص، وليس ظاهره ينافي الواقع، فإن الله تعالى قال: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين [سورة الفتح: 27] . [ ص: 48 ]
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبرا مطلقا، من المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال: والله لأفعلن كذا وكذا، ولم يكن هنا سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر، فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به.
ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر، أن ظاهره يقتضي التعجيل، أورده على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على صديقه، وأجاب كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل، وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه. فالغلط منه، لا لنقص في دلالة الخطاب.