والاستدلال باجتماع الجواهر وافتراقها - على رأي من يقول: إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة - يدخل في الأولى وفي الثانية.
أما دخولها في الأولى فبناء على أن الجواهر لا تخلو من الاجتماع والافتراق، كما لا يخلو الجسم - بل الجوهر - من الحركة والسكون. [ ص: 142 ]
وأما دخولها في الثانية فبناء على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وحينئذ فيكون: إما ممكنا عند من يستدل بذلك على الإمكان، وإما محدثا عند من يستدل بذلك على الحدوث.
ولكن الاستدلال بهذه الطريق مبني على أن الجسم مركب من الجواهر المحسوسة التي لا تنقسم، وهي الجواهر المنفردة، أو من الجواهر العقلية، وهي المادة والصورة، وهذا مما ينازعهم فيه جمهور العقلاء، بخلاف كون الجسم لا يخلو عن نوع من الأعراض، فلا يخالف فيه إلا شذوذ.
ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث، والثانية مبنية على أن ما اجتمعت فيه معان لزم أن يكون ممكنا أو حادثا، والثالثة مبنية على أن المختص لا بد له من مخصص منفصل عنه.
وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء، وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال، ويسلكه أيضا نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات.
وأما فأصل كلامهم مبني على طريقة التركيب، بناء على أن الموصوف مركب، وإذا استدلوا [ ص: 143 ] بطريقة الأعراض فإنما يستدلون بها على أن الموصوف بها ممكن، ويسندون ذلك إلى التركيب، فإنما استدلالهم بالأعراض على حدوث الموصوف فلا يمكنهم، بل هذا نقيض قولهم. المتفلسفة القائلون بقدم العالم نفاة الصفات،
وكل من الطائفتين تطعن في طريقة الأخرى وتبين فسادها. ومعلوم أن المتكلمين القائلين بإثبات الصفات لله تعالى أقرب إلى الإسلام والسنة من نفاة الصفات، وأن القائلين بحدوث السماوات والأرض أقرب إلى الإسلام والسنة من القائلين بقدم ذلك، ومن كان إلى الإسلام والسنة أقرب، كانت عقلياته التي يعارض بها النصوص الإلهية أقل بعدا عن دين المسلمين. نفاة الصفات
فإذا كان أئمة العلم قد أنكروا هذه التي هي أقرب من غيرها إلى العقل والنقل، وبينوا أنها فاسدة في العقل، محرمة في الشرع - كان ما هو أبعد منها وأضعف أعظم فسادا في العقل، وتحريما في الشرع.
وما زال أئمة العلم على ذلك، حتى أئمة النظر من أهل الكلام والفلسفة، فالاستدلال بالحركة والسكون على حدوث المتحرك الساكن، بل الاستدلال بالأعراض مطلقا على حدوث ما قامت به من الجواهر والأجسام، والاستدلال بحدوث الصفات على حدوث ما قامت به من الموصوفات، والاستدلال بتركيب الأجسام من الجواهر، ونحو ذلك، وجعل ذلك طريقا إلى العلم بحدوث العالم، وإلى العلم [ ص: 144 ] بإثبات الصانع تعالى، هو طريق الجهمية والمعتزلة، ونحوهم من أهل الكلام المذموم - عند السلف المحدث في الإسلام، وهم الذين ابتدعوا هذه الطريقة، والاستدلال بها - والتزام لوازمها، والتفريع عليها، وإن كان قد شركهم في ذلك قوم من غير المسلمين، أو سبقوهم إلى ذلك، سواء كانوا من الصابئين أو اليهود أو غيرهم.
والمقصود أن ظهور هذه في الإسلام كان ابتداؤه من جهة هؤلاء المتكلمين المبتدعين، وهذه هي من أعظم أصول هؤلاء المتكلمين. وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه، وتجهيل أصحابه وتضليلهم، حيث سلكوا في الاستدلال طرقا ليست مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصرائح المعقول، فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم.
وكلام السلف والأئمة في ذم ذلك كثير مشهور في عامة كتب الإسلام، وما من أحد قد شدا طرفا من العلم إلا وقد بلغه من [ ص: 145 ] ذلك بعضه، لكن كثير من الناس لم يحيطوا علما بكثير من أقوال السلف والأئمة في ذلك وبمعانيها، وقد جمع الناس من كلام السلف والأئمة في ذلك مصنفات مفردة، مثل ما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي. ومثل المصنف الكبير الذي جمعه الشيخ الملقب بشيخ الإسلام الذي سماه "ذم الكلام وأهله"، ومن ذلك في كتب الآثار والسنة ما شاء الله. أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري