لم يذموا أهل الكلام الذين هم أهل كلام صادق، يتضمن الدليل على معرفة الله تعالى، وبيان ما يستحقه وما يمتنع عليه، ولكن قد يورث شبهة وهوى. فالسلف ذموا أهل الكلام الذين هم أهل الشبهات والأهواء،
وقد اعترف بأن ما ذكره هو من الكلام والفلسفة ليس فيه كشف الحقائق ومعرفتها. [ ص: 182 ] أبو حامد
وأما حراسة عقيدة العوام.
فيقال: أولا: لا بد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أخبر به لأمته، فأما إذا كان المحروس فيه ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه، كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به، ويكذبوا بنقيضه، ويعتقدوا موجبه، قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك، والرد على من يخالفه، فإذا كان المتكلم الذي يقول إنه يذب عن السنة، قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقد نقيضه - كان مبتدعا مبطلا متكلما بالباطل فيما خالف فيه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن ما وافق فيه خبر الرسول، فهو فيه متبع للسنة، محق يتكلم بالحق.
ورد لبعض ما أخبر به الرسول، وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم عن مخالفة السنة، كالجهمية والمشبهة، والخوارج والروافض، والقدرية، والمرجئة.
ويقال بأنها لا بد أن تحرس السنة بالحق والصدق والعدل، لا تحرس بكذب ولا ظلم، فإذا رد الإنسان باطلا بباطل، وقابل بدعة ببدعة، كان هذا مما ذمه السلف والأئمة. [ ص: 183 ]
وهؤلاء - كما ذكره - يدخلون في هذا، وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه، والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام الباطل، والكلام بغير علم. أبو حامد
والأول كثير.
وأما الثاني فقد قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [سورة الأعراف: 33] .
وقال تعالى: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم [سورة آل عمران: 66] .
وقال: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [سورة الإسراء: 36] .
وهذا النوعان مذمومان في القضاء والفتيا والتفسير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وحكم بخلافه فهو في النار . [ ص: 184 ] القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار.
وفي السنن: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار.
فهذان النوعان من الكلام مذمومان مطلقا، لا سيما ما كان في نفسه كذبا باطلا، وأما جنس النظر والمناظرة، فهذا لم ينه السلف عنه مطلقا، بل هذا - إذا كان حقا - يكون مأمورا به تارة ومنهيا عنه أخرى، كغيره من أنواع الكلام الصدق، فقد ينهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع، أو الذي يضر المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء، فلا تفيد علما ولا دينا.
ومن هذا الباب أنه خرج صلى الله عليه وسلم على طائفة من أصحابه وهم يتناظرون في القدر، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ وأن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل القرآن ليصدق بعضه بعضا، لا ليكذب بعضه بعضا.
وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من [ ص: 185 ] هذا الباب، كالقائلين بأن الله جسم متحيز في جهة، والنافين لذلك، والقائلين: إن الله يجبر العباد، والنافين لذلك وأمثال ذلك من الكلام المجمل المتشابه، الذي يتضمن حقا وباطلا، في جانبي النفي والإثبات. فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نهي عنها لذلك.
والكلام بلفظ (الجسم) و (الجوهر) و (العرض) في مسائل الصفات هو من هذا الباب. قال: - وقد ذكر شيخ الإسلام في ذم الكلام من طريقه: سمعت أبو عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبي يقول: قلت أبا نصر أحمد بن محمد السجزي لأبي العباس بن سريج: ما التوحيد؟ قال: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكاره ذلك.
والمقصود هنا بيان فساد الطرق المعارضة للكتاب والسنة، وأما بيان اشتمال الكتاب والسنة على الطرق التي بها تحصل معرفة الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر، فهذا مذكور في موضع آخر.