وبالجملة فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة ويدعوه إليها أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقا.
وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [الأنعام: 135] ، وقال تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [الأعراف: 3] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: . «إن أصدق الكلام كلام [ ص: 235 ] الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه في سياق حجة الوداع: مسلم . «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى»
وفي الصحيح: هل وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، قيل: فلم، وقد كتب الوصية على الناس؟ قال: وصى بكتاب الله» لعبد الله بن أبي أوفى: . «أنه قيل
وقد قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [البقرة: 213] وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [النساء: 59] ، ومثل هذا كثير.
وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضا، فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة، ويدعوا إلى ذلك، وله أن يتكلم مع [ ص: 236 ] ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة، فإن وبين بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين، وأجاب عن معارضة المشركين، كما قال تعالى: الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا [الفرقان: 33] .
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطباته، ولما قال:
فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن كثير؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخليا به، فالله أعظم» ولما سأله أيضا عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات. [ ص: 237 ] «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر.
وكذلك السلف، فروي عن أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل بقوله تعالى: ابن عباس لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103] فقال له: «ألست ترى السماء؟ فقال: بلى، قال: أتراها كلها؟ قال: لا». فبين له أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية.
وكذلك الأئمة في رده على كالإمام أحمد الجهمية، لما بين وأنه مع ذلك عالم بكل شيء، كما دل على ذلك قوله تعالى: دلالة القرآن على علوه تعالى واستوائه على عرشه، هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير [الحديد: 4] ، فبين أن المراد بذكر المعية أنه عالم بهم، كما افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، وبين سبحانه أنه مع علوه على العرش يعلم ما الخلق عاملون، كما في حديث الذي رواه العباس بن عبد المطلب وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: أبو داود فبين الإمام «والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه» إمكان ذلك بالاعتبار العقلي، وضرب مثلين، ولله المثل الأعلى، فقال: لو أن رجلا في يده قوارير فيها ماء صاف، لكان بصره [ ص: 238 ] قد أحاط بما فيها مع مباينته، فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بصره بخلقه، وهو مستو على عرشه، وكذلك لو أن رجلا بنى دارا لكان مع خروجه عنها يعلم ما فيها، فالله الذي خلق العالم يعلمه مع علوه عليه، كما قال تعالى: أحمد ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14] .