الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود هنا التنبيه على أن النزاع في هذا الأصل يتنوع: تارة إلى الفعل المأمور به، وتارة إلى جواز الأمر.

ومن هنا شبهة من شبه من المتكلمين على الناس حيث جعل القسمين قسما واحدا، وادعى تكليف ما لا يطاق مطلقا، لوقوع بعض الأقسام التي لا يجعلها عامة الناس من باب ما لا يطاق، والنزاع فيها لا يتعلق بمسائل الأمر والنهي، وإنما يتعلق بمسائل القضاء والقدر، ثم إنه جعل جواز هذا القسم مستلزما لجواز القسم الذي اتفق المسلمون على أنه غير مقدور عليه، وقاس أحد النوعين بالآخر، وذلك من الأقيسة التي اتفق المسلمون؛ بل وسائر أهل الملل؛ بل وسائر العقلاء على بطلانها - فإن من قاس الصحيح المأمور بالأفعال كقوله: إن القدرة مع الفعل، أو أن الله علم أنه [ ص: 65 ] لا يفعل - على العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، فقد جمع بين ما يعلم الفرق بينهما بالاضطرار عقلا ودينا، وذلك من مثارات الأهواء بين القدرية وإخوانهم الجبرية.

وإذا عرف هذا فإطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام، كإطلاق القول بأن العباد مجبورون على أفعالهم، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على إنكار ذلك وذم من يطلقه، وإن قصد به الرد على القدرية الذين لا يقرون بأن الله خالق أفعال العباد ولا بأنه شاء الكائنات، وقالوا: هذا رد بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، والباطل بالباطل، ولولا أن هذا الجواب لا يحتمل البسط لذكرت من نصوص أقوالهم في ذلك ما يبين ردهم لذلك.

وأما إذا فصل مقصود القائل وبين بالعبارة التي لا يشتبه الحق فيها بالباطل ما هو الحق، وميز بين الحق والباطل - كان هذا من الفرقان، وخرج المبين حينئذ مما ذم به أمثال هؤلاء الذين وصفهم الأئمة بأنهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على ترك الكتاب، وأنهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، [ ص: 66 ] ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، ولهذا كان يدخل عندهم المجبرة في مسمى القدرية المذمومين؛ لخوضهم في القدر بالباطل؛ إذ هذا جماع المعنى الذي ذمت به القدرية.

ولهذا ترجم الإمام أبو بكر الخلال في كتاب "السنة" فقال: الرد على القدرية وقولهم: إن الله أجبر العباد على المعاصي، ثم روى عن عمر بن عثمان، عن بقية بن الوليد، قال: سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر ، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق، ويجبل عبده على ما أحب.

وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلا من القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك؛ ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وضعت هذا مخافة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق. [ ص: 67 ]

فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة.

أما الزبيدي محمد بن الوليد صاحب الزهري فإنه قال: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، فنفى الجبر.

وذلك لأن الجبر المعروف في اللغة هو إلزام الإنسان بخلاف رضاه، كما يقول الفقهاء في باب النكاح: هل تجبر المرأة على النكاح أو لا تجبر؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فيعنون بجبرها إنكاحها بدون رضاها واختيارها ويعنون بعضلها منعها مما ترضاه وتختاره. فقال: الله أعظم من أن يجبر أو يعضل؛ لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله، ومبغضا وكارها لما يتركه، كما هو الواقع، فلا يكون العبد مجبورا على ما يحبه ويرضاه ويريده، وهي أفعاله الاختيارية، ولا يكون معضولا عما يتركه، فيبغضه ويكرهه، أو لا يريده، وهي تروكه الاختيار.

وأما الأوزاعي فإنه منع من إطلاق هذا اللفظ، وإن عنى به هذا المعنى؛ حيث لم يكن له أصل في الكتاب والسنة: فيفضي إلى إطلاق لفظ مبتدع ظاهر في إرادة الباطل، وذلك لا يسوغ، وإن قيل: إنه يراد به معنى صحيح. [ ص: 68 ]

قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: سمعت بعض المشيخة يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أنكر سفيان الثوري جبر. وقال: الله جبل العباد.

قال المروزي: أظنه أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس، يعني قوله الذي في صحيح مسلم: «إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة.

فقال: أخلقين تخلقت بهما؟ أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقين جبلت عليهما.

فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله»
.

ولهذا احتج البخاري وغيره على خلق أفعال العباد بقوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [المعارج: 19 - 21] فأخبر تعالى أنه خلق الإنسان على هذه الصفة. [ ص: 69 ]

واحتج غيره بقول الخليل عليه السلام: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [إبراهيم: 40] ، وبقوله: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [البقرة: 128] .

وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي، لأن الزبيدي نفى الجبر، والأوزاعي منع إطلاقه؛ إذ هذا اللفظ قد يحتمل معنى صحيحا، فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل.

كما ذكر الخلال ما ذكره عبد الله بن أحمد في كتابه السنة فقال: حدثنا محمد ابن بكار، حدثنا أبو معشر، حدثنا يعلى، عن محمد بن كعب قال: إنما سمي الجبار لأنه يجبر الخلق على ما أراد، فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور، وكان أحسن من نفيه، وإن كان ظاهرا في المحتمل المعنى الفاسد خشية أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعا.

التالي السابق


الخدمات العلمية