ولما كانت الجهمية يقولون: إن الله لم يتكلم في الحقيقة، بل خلق كلاما في غيره، ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة، فهذا مراده، فالنزاع بينهم لفظي ـ كان من المعلوم أن القائل إذا قال: هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وأنه ليس هو كلامه، بل خلقه في غيره.
وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق، كان هذا المعنى ـ وإن كان صحيحا ـ ليس هو مفهوم كلامه، ولا معنى قوله، فإن المسلمين إذا قالوا: هذا القرآن كلام الله لم يريدوا بذلك أن أصوات القارئين وحركاتهم قائمة بذات الله، كما أنهم إذا قالوا: هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يريدوا بذلك: أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل وكذلك، إذا قالوا في إنشاد لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل [ ص: 260 ] هذا شعر لبيد وكلام لبيد، لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد، بل أرادوا أن هذا القول المؤلف، لفظه ومعناه، هو للبيد، وهذا منشد له، وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث: إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذا الحديث، وبمنزلة من قال: إن هذا الشعر ليس هو شعر فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو: إن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات، كان بمنزلة من قال: إن هذا الكلام ليس هو كلام الله، لبيد، ولم يتكلم به لبيد، ومعلوم أن هذا كله باطل.