وإن عنيت بالملاقاة على سبيل المجاورة ومماسة إحدى الذاتين للأخرى، ففيه جوابان: أحدهما: أن هذا لا يشترط في معنى لفظ اللقاء، قال تعالى: إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [الأنفال: 15]. ومعلوم أن هذا يكون بدون تباين الذوات.
وقال تعالى: إذا لقيتم فئة فاثبتوا [الأنفال: 45]. وقال تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا [آل عمران: 13]. [ ص: 36 ]
ومن المعلوم أن أكثر الفئتين لم تمس أحدهما أحدا من الأخرى، وإن كان قد تقع المماسة بين بعضهم.
ومثله قوله تعالى: إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان [الأنفال: 41]. وقوله تعالى: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم [الأنفال: 44]. وقد سماهما ملتقيين حين الترائي قبل التواصل، ومن هذا قول:
متى ما تلقني فردين ترجف روانف أليتيك وتسطتارا
[ ص: 37 ] فإنه لا يعني به إلا المواجهة والمقاربة.وقد قال تعالى: ويلقون فيها تحية وسلاما [الفرقان: 75]. وليس التحية والسلام مما تمس الإنسان.
وإن كان كذلك -وهؤلاء متفقون على صحة هذا المعنى بين العبد وربه- بطل ما ذكره من اتفاق الخلائق.
الجواب الثاني: أنه لو قدر أن المراد بالملاقاة في اللغة المماسة، فليس هذا المعنى مما اتفق على نفيه، بل أكثر الصفاتية يجوزون أن الله يمس المخلوقات وتمسه، كما يجوزون أن يراها وتراه، بل هذا مذهب أئمة الأشعرية أيضا، وقد ذكره هو عنهم في مسألة الإدراكات الخمسة، وقد تقدم ذكر ذلك [ ص: 38 ] -قال- في مسألة الرؤية: قوله -يعني المعترضين- هذا الدليل يقتضي صحة تعلق إدراك اللمس بالله، قلنا: إن إخواننا التزموا ذلك، ولا طريق إلا ذلك.
وقال أيضا في حجة المخالف الرابعة: (شبهة الأجناس) وهي: أن المرئيات في الشاهد أجناس مخصوصة، وهي الجواهر والألوان والحركات والسكنات والافتراق والاجتماع، ولا يخرج من هذه الأجناس ما هو منها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، فلا يصح أن ترى إلا ما كان من جنسها، كما أن المسموعات لما كانت في الشاهد جنسا واحدا مخصوصا وهو الصوت، وكما لا يجوز أن يسمع ما ليس [ ص: 39 ] بصوت، فكذا لا يجوز أن يرى ما ليس من هذه الأجناس، قال: وربما قالوا ابتداء: لو جاز تعلق الرؤية بالباري تعالى، فلم لا يجوز أن تتعلق به سائر الإدراكات حتى يكون مسموعا مشموما مذوقا ملموسا؟ ولما بطل ذلك بضرورة العقل، فكذلك ها هنا. ثم قال في الجواب: وأما التزام اللمس والشم والذوق والسمع فقد التزمه أصحابنا، وفي نسخة بعض أصحابنا، وذلك بالحقيقة لازم على من اعتمد في هذه المسألة على الوجوه العقلية، فأما من اعتمد على الوجوه السمعية فله أن يقول: لما دلت الدلالة السمعية على كونه مرئيا قلت به، ولم تقم الدلالة على كونه مذوقا [ ص: 40 ] ملموسا مشموما، فلا يلزمني أن أقول به.
وقال أيضا في مسألة إثبات أن الله عز وجل سميع بصير -بعد أن ذكر الطريقة العقلية وذكر الأسئلة عليها- قال فيها: "ثم لئن سلمنا أن هذا الكلام يدل على كون الباري سميعا بصيرا، لكنه يقتضي اتصافه بإدراك الشم والذوق واللمس، قال: وللأصحاب اضطراب فيه، وقياس قولهم يوجب القول بإثباته على ما هو مذهب القاضي وإمام الحرمين وغيرهما. [ ص: 41 ]
ثم قال: الفصل الخامس عشر في أنه تعالى هل هو موصوف بإدراك الشم واللمس والذوق؟ أثبت القاضي، والإمام هذه الإدراكات الثلاثة لله تعالى، وزعموا أن لله عز وجل خمس إدراكات، وزعمت المعتزلة البصرية أن كون الله تعالى حيا يقتضي إدراك هذه الأمور بشرط حضورها، فأما أبو القاسم بن سهلويه فإنه نفى كونه تعالى مدركا للألم واللذة، وأما الأستاذ أبو إسحاق [ ص: 42 ] منا فإنه نفى عن الله تعالى هذه الإدراكات، والأول مذهب القاضي والإمام، والدليل على ذلك ما ذكرناه في باب السمع والبصر".