الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الرابع والعشرون: قوله في الثالث: لو كان الباري أزلا وأبدا مختصا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودين في الأزل، فيلزم إثبات قديم غير الله، وذلك محال بإجماع المسلمين.

يقال له: هؤلاء إذا قالوا بأنه مختص بحيز وجودي أزلا وأبدا، فليس ذلك عندهم شيئا خارجا عن مسمى الله كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجا عنه، بل هو منه، وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته، لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة، والحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لزومه للذات كما أنه كذلك في سائر المتحيزات، فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته أبلغ في لزومه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك.

[ ص: 654 ] ثم إن هذه الحجة التي ذكرها من لزوم إثبات قديم غير الله تعالى مشهورة من حجج النفاة للصفات، وقد ذكرها هو في نهايته، فقال في حجتهم: الرابع: الصفات القديمة لابد وأن تكون مساوية للذات القديمة في القدم، وذلك يقتضي تماثلهما، وأجاب عن ذلك بأجوبة صحيحة بين فيها أن الاشتراك في القدم لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة، ولا يستحيل أن يكون للذات صفات قديمة، لكن هذا الموضع لا يحتاج إلى ذلك فإن احتج على نفي قديم غير الله بإجماع المسلمين.

فيكون الجواب في الوجه الخامس والعشرين: وهو أن المسلمين لم يجمعوا على أنه ليس لله صفة قديمة، بل عامة [ ص: 655 ] أهل القبلة على إثبات ذلك، ولكن أجمعوا على أنه ليس فيما هو خارج عن مسمى الله، وهو الأمور المخلوقة شيء قديم؛ فأين هذا من هذا؟! فهذا الإجماع إنما يلزم لو قيل إن هناك حيزا وجوديا خارجا عن مسمى الله تعالى يختص له أزلا وأبدا .

الوجه السادس والعشرون: أن احتجاجك في هذا بالإجماع لا يصح، فإنك قد حكيت نزاع المسلمين في أن الباري هل هو متحيز ومختص بحيز وجهة؟ وقررت أن الحيز أمر وجودي، فتكون قد حكيت نزاع المسلمين في ثبوت حيز قديم مع الله، بل قد يقال حكيت اختلافهم في ثبوت حيز قديم وجودي غير الله، وإذا حكيت اختلافهم في ذلك لم يجز أن تحكي إجماعهم على نفي قديم غير الله تعالى.

وتقرير هذا في الوجه السابع والعشرين أن يقال: هذه الحجة من أولها مبنية على أن الحيز أمر وجودي، وبذلك أبطلت المنازع لك في أن الباري متحيز، فلا يخلو إما أن يكون الحيز وجوديا أم لا، فإن كان الحيز وجوديا فقد ثبت تنازع الأمة في ثبوت قديم غير الله معه؛ لأن النزاع في تحيزه معلوم مشهور، وأنت إنما قصدت الرد على المخالف في ذلك، وإن لم يكن [ ص: 656 ] الحيز وجوديا بطلت الحجة من أصلها، وعلى التقديرين لا يصح أن تحتج بالإجماع على نفي قديم غير الله تعالى مع حكايتك الخلاف في أن الله متحيز وبنائك الحجة على أن الحيز أمر وجودي، بل إن كان ما ذكرته من النزاع نقلا صحيحا، وما ذكرته من الحجة صحيحة، فقد ثبت أن في الأمة من يقول بثبوت قديم غير الله، وإن لم يكن صحيحا بطل الاستدلال من أوله .

الوجه الثامن والعشرون: أن هذا اللفظ بعينه لا ينقل عن سلف الأمة حتى يحتج بمضمون اللفظ، ولكن لما علم من مذهب الأمة أن الله خالق كل شيء، وأن العالم محدث ذكر هذا اللفظ نقلا لمذهبهم بالمعنى، وإذا كان كذلك لم يكن هذا متناولا لموارد النزاع بين الأمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية